لماذا اخترنا الملف؟

انتابتني حالة انبهار واعتزاز وأنا أطالع كلام العلامة الأديب الشيخ عبد الله كنون الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب وهو يصف أحوال الأمة بعد اندحار الاحتلال؛ ويضع نظرة مستقبلية للقرن الخامس عشر الهجري؛ وما يجب على المسلمين فعله والإقدام عليه؛ شعرت حينها فعلا أن هذا الرجل يمثلني ويمثل كل مغربي مسلم يعي إكراهات الوقت؛ ويستفيد من تجربة التاريخ؛ ويستضيء بنور الوحي؛ ويعرف ما يتعين فعله.

لقد وصف الشيخ كنون الحالة السياسية التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية إبان تكالب الأعداء عليها من كل حدب وصوب؛ وسقوط العديد من العواصم العربية كدمشق وبغداد وتونس وفاس في قبضة الغزاة الأوربيين، وانهيار الخلافة العثمانية التي كانت تجمع شمل المسلمين وتقيم لهم كيانا دوليا مهيبا في العالم على ضعفها وتخلفها، وزرع السرطان الخبيث (الكيان الصهيوني) في جسم العالم الإسلامي والعربي؛ الذي أشاع فيه الأدواء والعلل من وهن وضعف وتخلخل واختلاف.
ووصف الحالة الاقتصادية بأن المسلمين تنازلوا عن أنظمتهم وتجهيزاتهم الاقتصادية والمالية؛ وأصبحوا يدورون في فلك الاقتصاد الغربي، وانتهت خيراتهم وثرواتهم الطبيعية بكيفية فيها كل الغبن عليهم واضمحلت الصناعة والانجازات الضرورية في العالم الإسلامي، وصارت البلاد الإسلامية كلها سوقا مفتوحة لتصريف المنتجات الأجنبية ابتداء من الخيط والإبرة إلى المدفع والطائرة، والأدهى من ذلك كله أن المسلمين نسوا رسالتهم فخضعوا للمعاملات الربوية المحرمة في قانون الاقتصاد الإسلامي تحريما باتا، فعوض أن يقف المسلمون في وجه التيار استسلموا له وبات كثير من قادتهم يعتقدون أنه لا نمو ولا ازدهار إلا باصطناع نظام الفائدة والربا المحرم.
أما الحياة الاجتماعية فوقع فيها تفكك كبير في نظام البيت والأسرة، وضعفت العلاقات بين الأبناء والآباء وسائر القرابات، وقل الاحترام وانعدم التعاون وانتشر الانحلال الخلقي وعم التبرج والسفور السفيه، وشربت الخمر علنا وتناولها الآباء والأبناء مجتمعين، وصار المسلمون من منتجيها وبائعها، وفتحت المواخير في أكثر من بلد إسلامي بله المراقص والملاهي، واقتبست القوانين الأجنبية وحلت محل القوانين الشرعية، ومنها قانون الحريات العامة الذي عطل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأباح كثيرا من المفاسد حتى الردة والطعن في الدين وسائر المقدسات.
بعد مطالعتي لمقال الشيخ كنون -رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته- راح عقلي يجري مقارنة بين الخطاب الديني الذي انتصب للتبشير به ثلة من علماء المغرب السلفيين أمثال الشيخ كنون؛ وبين الخطاب الديني الحديث الذي يسعى إلى ترسيمه خريج الزاوية البودشيشية وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد توفيق؛ بين خطاب يشخص الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويطرح حلولا لمختلف الإشكالات التي تواجه الأمة انطلاقا من منظور شرعي؛ وبين خطاب يهدف بالأساس إلى حصر الدين في إطار السلوك ومنع العلماء من الخوض في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي؛ ويعتبر الخطاب الذي يروج لهذا الطرح خطابا شعبويا يسعى به صاحبه إلى اكتساب النجومية واستمالة النفوس.
إن الخطة التي وضعتها الوزارة في هذا الإطار تهدف كما عبر الوزير نفسه إلى رسم “خريطة لمشروع ديني متساوق مع المشروع السياسي ورافد له أيضا، والذي من شأنه أن يزيل من الأذهان تماما أن هناك احتمال التنافر أو الاصطدام بين هذه المقومات”.
والإستراتيجية الجديدة للدولة في إعادة تشكيل الحقل الديني تبرز على أكثر من صعيد سواء فيما يخص المجالس العلمية؛ أو احتكار الفتوى وجعلها من اختصاصات المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى؛ وتنصيب المجالس العلمية المحلية التي تندرج في إطار سياسة القرب وإعادة تشكيل الخطاب الديني المحلي.
ولإنجاح هذا المشروع عملت الوزارة الوصية على إضعاف منافسيها في مجال تسويق الخطاب الديني أو إقصائهم؛ وفي السياق نفسه يمكن فهم السبب الحقيقي وراء إغلاق أكثر من ستين دارا للقرآن الكريم؛ لأنه في إطار المشروع الجديد يجب ألا يعلو إلا صوت واحد هو صوت المؤسسة الرسمية.
لكن هل تحظى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومن ورائها المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية بالمصداقية عند عموم المغاربة؟
أكيد أنه ما دامت المجالس العلمية رهينة بالتصور العام للدولة وخياراتها الكبرى؛ لا تستقل بمواقفها وقراراتها وقناعاتها؛ فإن الخطاب الديني الذي ستسوقه لن يحظى بمصداقية عموم الشعب المغربي على الإطلاق. وإذا كانت الوزارة الوصية حريصة على أن تضطلع بهذا الدور ولا تفوته أو تشرك فيه طرفا آخر؛ فحري بها أن تقدم الخطاب الديني كما هو؛ ولا تحاول أن تجري من جديد تجارب ثبت فشلها بالواقع والتجربة.
يجب أن نشير هنا إلى أن المنابر الإعلامية العلمانية راضية كل الرضا عن إستراتيجية إعادة تأهيل الحقل الديني؛ وما تحقق في هذا المجال؛ وهو ما عبرت عنه في أكثر من مناسبة؛ بل أكثر من ذلك باتت هذه المنابر تشير في بعض الأحيان على وزير الأوقاف بما يجب فعله؛ كما وقع في حادث عزل السيد رضوان بنشقرون.
وبإجراء مقارنة بين ما كان يتعرض له وزير الأوقاف السابق السيد عبد الكبير العلوي المدغري بسبب مواقفه تجاه التوسع العلماني في المجتمع؛ وبين ما يحظى به الوزير الحالي أحمد التوفيق من رضا هذه المنابر؛ يمكننا أن ندرك أي الطرفين سيستفيد من التدبير الجديد للحقل الديني.
ولتسليط مزيد من الضوء على هذا الموضع المهم الذي ما فتأت جريدة السبيل توليه عناية خاصة؛ ارتأينا فتح هذا الملف.
(ن.غ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *