تحدثنا عن أسس طريقة الجنيد، ثم تحدثنا عن شروطها، فهل نتوفر الآن على براهين، أو على أدلة قاطعة تحملنا على الاقتناع التام بأن المغاربة قد اختاروا منذ البداية طريقته، وأنهم لم يختاروا أخرى غيرها، لا قبلها ولا بعدها؟ أم إنهم لا يعرفون الجنيد إلا من بعيد، ولم يختاروا بالتالي طريقته عن وعي وتبصر، وإنما هو منهم ادعاء، أو مجرد وقوع في خطأ أو توهم لا أقل ولا أكثر؟
في مؤلف لي لم ينشر بعد: “التصوف الطرقي بالمغرب الحديث والمعاصر. سوس نموذجا”، خصصت الفصل الثالث من الباب الثاني للتصوف المغربي بين “الغزالية” و”الجنيدية”، وقدمت من الأدلة ما يكفي للتأكيد على أن المغاربة يجهلون حقيقة الجنيد! وأن ادعاءهم الارتباط به، مجرد ادعاء باطل وقبض الريح!
فلو تصفحنا كتاب “التشوف إلى رجال التصوف” المنتمي إلى العصر الموحدي، وكتاب “أنس الفقير وعز الحقير” المنتمي إلى العصر المريني. وهما لكل من ابن الزيات (ت617 هـ)، وابن قنفذ (ت810 هـ)، لما وجدنا ذكرا للجنيد على أنه إمام المغاربة وقدوتهم في التصوف، كما ادعى ابن عاشر في منظومته، وإنما وجدناه للغزالي الذي كان مؤلفه “إحياء علوم الدين” حين ظهوره بالمغرب ككتاب “رأس المال” لكارل ماركس في عصرنا الحالي، حيث إنه قوبل بالمنع والمصادرة، خاصة في الدول العربية والإسلامية التي تدين بالولاء للنظام الليبرالي المتفسخ. إنما دون أن يجدي فتيلا حرق كتاب الغزالي. فقد تم إخفاؤه، ونسخه، وتداوله في السر قبل العلن!
مما يعني أن بعض المغاربة المولعين بالسلوك الصوفي، وقع اختيارهم على الارتباط بطريقة الغزالي في التصوف، إلى أن ظهرت الشاذلية التي دخلت معها في صراع مرير في كل من الأندلس والمغرب، مع التنبيه إلى أن ابن خلدون مثل طرفا في ذلك الصراع من خلال كتابه القيم “شفاء السائل”.
فقد ورد على علماء فاس في عصر بني مرين، سؤال من أهل الأندلس -كما أخبرنا بذلك الإمام الشاطبي في الاعتصام- موضوعه التساؤل عما إذا كان الشيخ ضروريا للراغب في سلوك مسلك الصوفية. فكان أن ميز ابن خلدون في كتابه بين ثلاثة أنواع من المجاهدة: مجاهدة التقوى والورع، ومجاهدة الاستقامة، ومجاهدة الكشف والمشاهدة. حيث اعتبر هذه الأخيرة مع ما تؤدي إليه من هذيانات ومن شطحات لا محسوبة العواقب! ولا مقدرة النتائج إيغالا في الرهبنة! فساق قوله تعالى: “وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ”. وهذا الكثير اليوم في نظرنا ومعنا براهيننا هم مشايخ الطرق الصوفية الضلالية!!!
فيكون المتصوفة المتجردون الذين يديرون ظهورهم للتكسب، قد ألزموا أنفسهم برباعي الجوع، والسهر، والعزلة، والصمت، كما أوصى بذلك الغزالي، وكما تتميز به طريقته، حيث إنهم يدخلون في متاهات من الشطح الذي هو نتيجة لغياب عن الوعي لفترات، قد تطول وقد تقصر، وحيث إنهم يتأرجحون بين السكر والصحو، أو بين الغيبة والحضور، أو بين الفناء والبقاء! وقد يصاب أحدهم في بدنه! أو في نفسه! أو في عقله! أو في دينه، وقل فيهم من ينجو من هذه الآفات الأربع، كما نص عليها ابن خلدون في كتابه المذكور قبله!
وكتأكيد منا على أن المغاربة لا يعرفون الجنيد الذي طالما لجأ إلى التقية كالشيعة الغالية، لإخفاء حقيقة أمره، ولا عرفوا الجنيد الذي كان يعقد مجالس للمذاكرة والإرشاد، لا مجالس للذكر الجماعي الخالي من أي مدلول حقيقي للتعبد لأنه بدعة ضلالة! وإنما عرفوا الغزالي وتشبثوا به وبمبادئه الصوفية.
فقد ورد على لسان أبي محمد صالح قوله: “لما وصل إلى فاس كتاب علي بن يوسف (المرابطي) بالتجريح على كتاب “الإحياء” وأن يحلف الناس بالأيمان المغلظة أن “الإحياء” ليس عندهم، ذهبت إلى أبي الفضل استفتيه في تلك الأيمان، فأفتى بأنها لا تلزم. وكانت في محمله أسفار فقال لي: هذه الأسفار من كتاب “الإحياء” وودت أنني لم أنظر في عمري سواها!!! وكان أبو الفضل قد استنسخ “الإحياء” في ثلاثين جزءا. فإذا دخل شهر رمضان، قرأ في كل يوم جزءا وكان الغالب عليه الحضور مع الله تعالى”!
وكان أحمد بن عاشر دفين سلا “فريدا في الورع ميسر عليه في ذلك أتم تيسير. محفوظا من كل ما فيه شبهة. كثير النفور من الناس، وخصوصا أصحاب الولاية في الأعمال. وخرجت على يده تلامذة صلحاء. وطريقته أن جعل “إحياء علوم الدين” بين عينيه، واتبع ما فيه بجد واجتهاد وصدق وانقياد. وكان الحجة في ذلك الطريق”. يقصد الطريق الصوفي على نهج الغزالي وحسب قناعاته وتصوراته!
فأين الجنيد إذن وأين الجنيدية، ونحن في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجريين مع ابن الزيات؟ وفي أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع مع ابن قنفذ؟
فهل نتوقع أن يتخلى المغاربة عن الغزالية، ثم عن الشاذلية التي جاءت بعدها ليسلكوا على الطريقة الجنيدية المتقدمة زمنيا على الطريقتين هاتين؟ إنما متى؟ وكيف؟ ولماذا؟ فضلا عن كون الدراسات المنجزة عن التصوف المغربي وحوله تقول: كل الطرق الصوفية المغربية ترجع إلى الشاذلية ما عدا القادرية والتجانية! ولم نجد دراسة واحدة تدعي، أو يدعي من أنجزها أن الطرق الصوفية الحالية كلها جنيدية! وأن كل الطرقيين يسلكون على طريقة الجنيد؟
وفضلا عن هذه الحجج، تحدث ابن قنفذ القسنطيني عن الطوائف الصوفية بالمغرب في حدود الربع الأخير من القرن الثامن الهجري فقال: “فسألت عن جملة الطوائف التي هي بالمغرب الأقصى في الأرض التي تنبت الصالحين كما تنبت الكلأ! فوجدتها متعددة باعتبار تعدد الأشياخ، وأقرب ما ترجع إليه ستة” مع إغفاله لطائفة الحنصاليين، ليصبح مجموع الطوائف (= الطرق) سبعة هي هذه:
1- الشعيبيون: وهم طائفة أبي شعيب آزمور من أشياخ الشيخ أبي يعزى.
2- الصنهاجيون: من طائفة بني أمغار (الأمغاريون) من بلد تيطنفطر من أقران أبي شعيب.
3- الماجريون: وهم طائفة أبي محمد صالح، ومنهم الدكاليون.
4- الطائفة الرابعة: الحجاج، أي لا يدخل في جميعهم إلا من حج بيت الله الحرام. وقد دخلت دار شيخهم وتمتعت بلقائه، واغتنمت فضيلة دعائه.
5- والطائفة الخامسة: الحاحيون، ومنهم جملة في جبل درن. وهو الجبل العظيم الذي ليس على وجه الأرض مثله في الارتفاع (؟؟؟).
6- أما الطائفة السادسة: فهم الأغماتيون، وهم طائفة الشيخ الولي الشهير أبي زيد عبد الرحمن الهزميري.
7- طائفة الحنصاليين التي أسسها سعيد أحنصال، تلميذ أبي محمد صالح دفين دادس.
ويؤكد الدكتور حسن جلاب أن مدرسة “الجنيد” يتبعها “الشعيبيون والأمغاريون”. وأن مدرسة الغزالي يتبعها “الماجريون والحاحيون والأغماتيون”. إضافة بالتأكيد إلى طائفة الحجاج والحنصاليين.
ونظرة سريعة فاحصة إلى الطوائف الواردة في “أنس الفقير” و”الحركة الصوفية بمراكش”، تبين كيف أن طائفتين من ضمن سبعة، كانتا على طريقة الجنيد، وأن الخمسة المتبقية كانت على طريقة الغزالي، مما نستبعد معه ادعاء تعميم “الجنيدية” كمنهج في التصوف معمول به لدى المغاربة على الإطلاق! وهنا نسجل باختصار شديد ما يلي:
إن الوقوف عند كل من أبي شعيب آزمور، وعند ابن أمغار، يؤكد لنا عكس ما ذهب إليه الدكتور جلاب، يعني أن الشعيبيين والأمغاريين ليسوا أبدا -من وجهة نظرنا- على طريقة الجنيد!
فقد وقفنا مليا على قواعد طريقته وعلى شروطها، وأخذنا عليه مآخذ من أبرزها دوام الوضوء، ودوام الصوم، وربط القلب بالشيخ، وترك الاعتراض عليه، مما يجعل من مريديه عبيدا له!
ثم إن الجنيد من جهة أخرى يشترط للدخول في سلك المتصوفة شرطين ضروريين مترابطين: حفظ القرآن الذي لا يعني مجرد استظهاره، وإنما يعني كذلك معرفة مضامينه، وكتابة الحديث التي تعني الاطلاع على سنن المختار رواية ودراية. وهذا ما لم نجده لا لدى أبي شعيب، ولا لدى ابن أمغار. أي أننا لم نجد لديهما ما يدل دلالة قاطعة تحملنا على الاقتناع بأنهما على طريقة الجنيد، فضلا عن كون مبلغ من العلم هزيل جدا وهزيل!
وبإمكان القارئ الراغب في التفاصيل أن يتناول كتابي “عرقلة الفكر الظلامي الديني للنهضة المغربية”. فسوف يجد من جملة مضامينه مبحثا عنوانه: “وليان كذابان جاهلان بالدين: إنهما كل من أبي شعيب الدكالي، وتلميذه أبي يعزى الهزميري (= مولاي بوعزة). فأين إذن أبو شعيب من الجنيد؟
ونفس التساؤل يخرج به من قرأ ترجمة ابن أمغار في كتاب “التشوف إلى رجال التصوف”. إنه سوف يردد مثلي: أين ابن أمغار من الجنيد؟
فتكون النتيجة ملخصة في كون المغاربة لم يلتزموا بطريقة الجنيد لأنهم لم يعرفوها، ولا عرفوا صاحبها. وإنما اقتداؤهم في التصوف كان بالغزالي، ثم لاحقا بالشاذلي.
وعليه قيل ويقال: الطرق الصوفية المغربية كلها ترجع إلى الشاذلية ما عدا طريقتين: القادرية والتجانية! والحال أن هذا الزعم نفسه غير مسلم به! يكفي أن الدرقاوية المحسوبة على الشاذلية، غزالية الاتجاه بامتياز! وللراغب في التأكد مما سجلناه هنا، أن يقرأ “رسائل مولاي العربي الدرقاوي” من ألفها إلى يائها، ليشاهد بأم عينيه ويلمس بأصابع يديه أبا حامد الغزالي يجري بين السطور، ويطل من ثقب كل حرف دائري، كما يطل أحدهم من ثقب الباب أو من كوة في الجدار!