إثر صعود الإسلاميين إلى الحكم ما فتئ بعض العلمانيين يضعون الفخاخ في طريق الحكومة الجديدة حتى قبل أن يعلن عن تشكيلتها، محاولة منهم لإرباكها، وسعيا إلى الظهور بمظهر حراس المكتسبات “الديمقراطية” وسدنة معابد “الحريات الفردية”، مفتعلين معركة وهمية حول هذه الحريات رافعين بدل الحجج والأدلة فزاعات يرهبون بها الناس.
لكن ما يحز في النفس أن المتتبع للسجال حول الحريات الفردية بين الإسلاميين والعلمانيين، يلمس جليا أن هناك مسكوتا عنه يبقى مبعدا عن النقاش، حتى لا يساء فهم الكلام عنه من طرف الخصوم السياسيين في الداخل والخارج، خصوصا وأن ممارسة السياسة في بلادنا ما تزال مشروطة قبل الدخول في لعبة الديمقراطية بشروط ديكتاتورية، مما يجعل بعض من يخوض في هذا السجال من الإسلاميين يتكلم تحت وطأة الإكراهات، فيأتي كلامه أقرب إلى التبرؤ ودفع التهم منه إلى نقد التطرف العلماني والدفاع عن المفاهيم الإسلامية، والأحكام الشرعية المستهدفة والتي تبقى سامية وفوق كلِّ ما يُهرِّبُه العلمانيون من قوانين ومبادئ ومفاهيم غربية دون أية ملاءمة مع دين المغاربة وهويتهم الإسلامية.
وقبل الخوض في موضوع الحريات الفردية لنا وقفة مع أسلوب العلماني أحمد عصيد في تناول موضوع الحريات الفردية الذي يعطي الانطباع القوي لدى المتتبع بأن قصده هو إثارة الرعب لدى الغرب والمتعلمنين من المغاربة حتى يجيشهم ضد حكومة لم تتشكل بعد لا لشيء سوى لأن أغلبيتها ذات مرجعية إسلامية. وأسلوبه كما هو دأبه تنتظمه أمور قلما تتخلف، منها:
1-الجرأة على الدين الإسلامي.
2- الطعن في أحكام الشريعة والتصريح أنها أصبحت متجاوزة بفعل التحرر الذي حققه المغاربة من “إسار التقليد الديني والأخلاقي للمجتمع المغربي القديم” حسب قوله.
3- ادعاؤه زورا أن قناعاته العلمانية هي قناعات الشعب المغربي، وأن المغاربة -الذين حسب نزعته الاستئصالية هم الأمازيغ فقط- كانوا عبر التاريخ علمانيين.
4- جزمه بأن المفاهيم الغربية المتعلقة بالحريات الفردية وباقي حقوق الإنسان مطلقة ولا تقبل التفاوض ولا المساومة.
5- الكذب ولَيُّ أعناق الأحداث التاريخية والنصوص الشرعية حتى تقبل التوظيف في إطار مزاعمه.
6- إلزام المغاربة بتبني الديمقراطية بالمفهوم الغربي كتلة واحدة ودون أية ملاءمة لها مع هوية البلاد ودين العباد.
7- تجريم نقد التراث المفاهيمي الغربي خصوصا ما تعلق منه بحقوق الإنسان والمساواة وحقوق المرأة والحريات الفردية.
أما بخصوص مشاركتنا في هذا السجال الدائر حول الحريات الفردية، فإننا نحب أن نؤكد على أن العلمانية دين له عقيدته وسلوكه وتصوره للكون والإنسان والحياة. وتتمحور هذه العقيدة وهذا السلوك وذلك التصور على أصل أصيل وجوهر فريد هو أن الفرد في منظور العلمانية يعتبر مركز الكون، وبالتالي فحرياته الفردية مطلقة، ومُتعته ورفاهيته غاية لا متناهية بل ليس بعدها غاية، فكل ما يحد من حرياته يجب أن يُتجاوز ويُنسخ، سواء كان أعرافا أو تقاليد أو قوانين من صنع البشر أم كان دينا قيِّما أو وحيا منزلا.
أما الإسلام فينبني هو أيضا على عقيدة ومنظومة قيمٍ وتصور للكون والإنسان والحياة، وتتمحور هذه العقيدة وتلك المنظومة وذلك التصور على أصل أصيل وهو العبودية لله، خالق الكون ومبدعه، سخره للإنسان ووهب له الحياة على الأرض ليقوم بتحقيق وظيفة العبودية لله خالقه التي تقتضي منه أول ما تقتضي، أن يتحرر من عبادة العباد والمخلوقات، ويجرد توحيده لله من كل الشركيات والخرافات، حتى يكتسب أهلية هذه العبودية، التي تمكنه من الخروج من ربقة الأساطير التي تجعل منه عبدا حقيرا لمخلوقات كالبراكين والزلازل، مكبل الإبداع مقيد الحركة خائفا من مجهول/وهم تعاظم في قلبه بسبب إيمانه بتلك الأساطير.
لذا، فدعوة المسلمين للناس حتى يكونوا عبادا لرب العالمين فرع عن إيمانهم الجازم بأن الله الذي خلق ورزق هو المستحق للعبادة، وقديما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه وهو يتفاوض مع قائد جيوش الفرس عندما سأله ما الذي جاء بكم فرد عليه: “إن الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله”.
فإذا كان الإنسان عبدا لله كان متحررا ممن سواه، سواء كان بشرا أو شهوة، فالعبودية لله وحده تعطي العبد القوة التي تحقق له التوازن في الحياة، وتمنحه الحرية التي تجعله يتحكم في محيطه، ويتصرف في الكون دون أن يعيش تحت تأثير سيء لشهوة الرئاسة أو لشهوة البطن أو الفرج، أو عبدا تسيره نزواته، وتملي عليه شهواتُه مواقفَه وقناعاتِه، فيذل ويشقى؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “المحبوس من حبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه”.
ومن هنا نخلص إلى أن احتدام الخلاف حول الحريات الفردية في المغرب بين الإسلاميين والعلمانيين ليس مرده إلى الاختلاف في وجهات نظر فكري بل سببه اختلاف في المرجعيات العقدية.
فالعلمانيون المغاربة الملحدون لا يعترفون بوجود الله تعالى ويعتبرون الإيمان به خرافة نسجها خيال الأجداد، وحتى المؤمنون منهم بوجود الله فأغلبهم لا يعترفون له سبحانه إلا بالخلق وفق النظريات الفلسفية الغربية، بينما ينكرون أن يكون له الأمر، أي بمعنى آخر يعترفون بوجوده لكن ينكرون أن تكون له شريعة أمر بتنظيم حياة خلقه وفقها، وذلك حتى يعطلوا العمل بالشريعة الإسلامية؛ في مناقضة صريحة لقول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}الأعراف.
وهذا ما يفسر عدم اهتمامهم عند مناقشتهم موضوع الحريات الفردية ما إذا كانت تخالف أحكام الدين أم لا، لذا تسمعهم يقولون في جهل عريض عند الحديث عن العري في المسرح والسينما: “الإبداع فضاء حر لا ينتظر الضوء الأخضر من المسجد أو من الزاوية أو ثكنة العسكر”. عصيد/الأحداث 21/12/2011م.
إن الحرية الفردية في الإسلام تمارس ضمن إطار العبودية لله، ولا تتم حرية الإنسان بمعناها السامي النبيل إلا إذا مورست في حدود ما يقتضيه الإيمان بوجود رب له الخلق والأمر، فإيمان المغاربة الجازم بأن الله له الخلق والأمر يجعلهم يرفضون ممارسة حرياتهم الفردية إلا إذا كانت في إطار عبوديتهم لله تعالى، تحقيقا لمعنى الإسلام الذي يلزم أتباعه بالاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
ولنتأمل كيف فضل الله سبحانه من أسماء الأفراد ما كان منها دالا على العبودية له، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن”، وما ذلك إلا لكونها تنسجم مع وظيفة الإنسان على الأرض ومع الهدف من خلقه، المُبيَّن في قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
وليتأمل أيضا كل من لا يستنكف أن يكون عبدا لله على وجه الحقيقة لا بالادعاء الأجوف فقط، موقف الصحابي الجليل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدد له بعض الأحكام التي تضبط حريته الفردية في الملبس، وكيف قابل ذلك بالطاعة والانقياد، فعن عبد الله بن عمر قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلي إزار يتقعقع، فقال: “من هذا؟” فقلت: عبد الله قال: “إن كنت عبد الله فارفع إزارك”، فرفعت إزاري إلى نصف الساقين. فلم تزل إزرته حتى مات). الصحيحة 1568.
فالإسلام لسموه وكماله نجده يربط الحرية الفردية بأركان الإيمان، إذ نجد الآيات العديدة تربط بين السلوكيات والتصرفات الفردية وبين الإيمان بالله واليوم الآخر، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثالها قوله عليه الصلاة والسلام: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”. البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر”. الإرواء 1949.
والعجب كل العجب أن نجد آباءنا في بداية القرن العشرين أقاموا الدنيا ولم يتركوها تقعد لمجرد أن المخزن سن ضريبة الترتيب المخالفة للشريعة الإسلامية، مما قام سببا من جملة أسباب أخرى لعزل السلطان مولاي عبد العزيز، واليوم نجدنا في بدايات القرن الواحد والعشرين مجبرين على مناقشة من يدعو إلى إباحة الخمر للمسلمين ويدافع عن الشذوذ/اللواط والزنا والقمار والعري والربا وكل الموبقات، بدعوى الدفاع عن الحريات الفردية وحماية المكتسبات الديمقراطية، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} المؤمنون.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل