فرنسا ومرحلة ما بعد حكم الأحزاب العلمانية في المغرب

لا أحد يمكنه إنكار أن جل الأحزاب التي حكمت في دول العالم العربي كانت أحزابا علمانية، حالت -دوما وبكل الطرق- دون استئناف العمل بنظام الحكم الإسلامي الرباني العادل، في تواطئ سافر مع قوى الغرب “الاستعمارية”، فكانت النتيجة أن أصبحت مجتمعاتنا غارقة في موبقات الربا والزنا والإجهاض والقمار والشذوذ وحمل السفاح  وشرب الخمور وسفك الدماء، وهتك الأعراض وهدر الأموال وإفساد الأوطان، راسفة ذليلة في مهاوي البطالة والفقر والهشاشة، قابعة في مستنقع التبعية للغرب والإلحاق الإجباري بحضارته.
وشاء الله سبحانه بعد عقود من التغريب والعلمنة والتجهيل والإفقار والإفساد، وقطع الأواصر الدينية، وتشجيع الرذيلة، واستنبات القيم الغربية، أن تعود الشعوب إلى هويتها بعد أن تاهت في أودية التخريف القومي والتدجيل الاشتراكي والتخييل الديمقراطي و”التمثيل” الحداثي، عادت تتلمس الخروج من التيه في اختيار ممثلين رفعوا شعارات الهوية وعبروا عن انتمائهم إلى مرجعية الشعوب الإسلامية.
فهل بعد سقوط زعماء العلمانية من فوق كراسي الاستبداد والقهر والعمالة، وانحياز الشعوب إلى من يمثلهم من الإسلاميين يبقى معنى لفصل الدين عن السياسة في العالم العربي؟
وهل بعد هذا الحضور القوي للصوت الإسلامي وللتيارات الإسلامية يبقى معنى للفصام النكد بين الواقع والشريعة، وبين الديني والزمني كما يحلو للعلمانيين أن يسموه؟
فالعقل يقول: لا. والمنطق أيضا يقول: لا. لكن الواقع ما زال يقول: نعم.
واقع لا يعترف بعقل صريح ولا بشرع صحيح.
واقع لا منطق فيه إلا منطق القوة والهيمنة.
واقع يدار في دهاليز وأقبية ومكاتب لا تفتح أبوابها لعامة الناس، وما يقرر فيها لا تسمعه ولا تقرأه، لكنك تراه في مصنعك وبيتك وفي شارعك ومدرستك، تراه في القنوات التلفزية التي تمول بضرائبك، وفي الإدارات العمومية التي يفترض فيها أن تكون في خدمتك، إنه واقع التبعية للغرب وخصوصا لدولة الاحتلال: فرنسا.
واقع نحاول أن نتلمسه في تصريح خارجية فرنسا عقب الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية 2011م، حيث قال: “إنه سيكون من خطأ فرنسا ألا تتحدث إلى أعضاء ذلك الحزب الفائز بحوالي ربع مقاعد مجلس النواب، والمرشح لرئاسة الحكومة في المغرب، ما داموا لا يتجاوزون الخطوط الحمراء التي هي خطوطنا، أي احترام الانتخابات ودولة القانون وحقوق الإنسان والمرأة”.
فما الذي يدفع وزير الخارجية الفرنسية إلى التخلي عن اللباقة الدبلوماسية، واللجوء إلى معجم التهديد، حتى ليخيل للمغربي أنه ما يزال في عهد الحماية أيام كانت الظهائر والقرارات توقع من طرف المقيم العام؟
ولماذا لم نكن نسمع مثل هذا التهديد المبطن في حق الحكومات السابقة رغم أنها لم تكن تستجيب لشروط النزاهة الديمقراطية التي يؤمن بها الساسة الفرنسيون؟
ومن الذي أعطى لفرنسا صلاحية التدخل في شؤون المغرب ورسم الحدود وفرض الخطوط وتحديد ألوانها؟
إن منطق الاستكبار الذي يحكم علاقة فرنسا ببلادنا  مرده إلى استمرار النفوذ الفرنسي المالي والثقافي بعد رحيل جنودها أو قل بعد استبدال عساكرها العباءة الدبلوماسية باللباس العسكري، ورحيلهم فقط من الثكنات إلى مقرات السفارة والقنصليات، هذا النفوذ لفرنسا ودول الغرب في المغرب هو أكبر التحديات الداخلية التي ستواجه حكومة العدالة والتنمية إن هي تشبثت باستقلاليتها، ورفضت الانبطاح لأوامر “اللوبيات” الاقتصادية الفرنسية، التي ما زال بعبع الإسلاميين يؤثر على أعصابها.
فلا شيء يحرك الفرنسيين والغرب عامة غير المصالح المادية والإستراتيجية لبلدانهم في بلداننا، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها، والتي تفرض عليها البحث على مصادر التمويل، وموارد للثروات الطبيعية بأثمنة رخيصة، حتى تستنهض اقتصاداتها الكاسدة.
ففرنسا لا يهمها أن يصبح المغرب بلدا ديمقراطيا، وإنما تخاف أن يحول الإسلاميون دون استمرار استغلالها لخيرات بلادنا، إنها تخاف من انحسار سلطتها في التأثير على القرار السياسي في الحكومة المغربية، تخاف أن تجفف مشاريع الحكومة الجديدة منابع الثروة التي تراكمها شركاتها، تخاف أن يتم الإجهاز على هيمنة ثقافتها الفرانكفونية على مناحي الحياة المغربية.
إن موقف الفرنسيين هذا، يفسر بما لا يترك مجالا للشك، لماذا تحارب دول الغرب الإسلام وتخاف من أن يسود نظامه وشريعته في البلدان الإسلامية، كما يفسر الدعم اللامتناهي الذي يحظى به العلمانيون المغاربة من أجل الحفاظ على استمرار ثقافتها ونظمها، وحماية خطوط فرنسا الحمراء التي يفرضون علينا أن تكون هي نفسها خطوطنا الحمراء.
أما الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان والمرأة، فما هي إلا أسلحة تستعملها في الضغط على الأنظمة الفاسدة، كما على الشرفاء حتى يذعنوا للأوامر، مسخرة لوكلائها العلمانيين الذين سيلتحقون بالمعارضة بعد الإفلاس السياسي الذي منوا به عندما رفعت أيدي التزوير والعبث عن الصناديق الزجاجية، تحت وطأة ظروف دولية ووطنية فرضت توقف مسلسل تمييع الحياة السياسية، واستغلال النفوذ والسلطة لتحجيم الإسلاميين، والحيلولة دون وصولهم إلى الحكم.
فأين كانت مواقف الفرنسيين المتباكية على الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان والمرأة عندما كانت تسوق لنظام فرعون تونس المخلوع على أنه النظام الأكثر حداثة وتطورا في العالم العربي؟
أين حقوق مئات الآلاف من المغاربة الذين قتلت فرنسا آباءهم وأجدادهم؟ لماذا لا تعوضهم أليست حقوقهم من جملة حقوق الإنسان؟
أم أن للحقوق معنى خاصا لديها حتى تستحق الحماية، وللإنسان مواصفات معينة حتى يستحق أن تكون له حقوق.
فعلى دول الغرب أن تفهم أن الشعوب الإسلامية قد أصبحت أكثر وعيا وأكثر قوة، مما يجعلها مؤهلة لإعادة النظر في الكثير من الأمور التي فرضت عليها بالتواطؤ مع حكومات فاسدة مستبدة، لا تزال تسقط الواحدة تلو الأخرى في مشهد أشبه بسقوط أحجار الشطرنج من رقعة اللعب  فسبحانك اللهم مالك الملك: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}آل عمران.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *