التعديلات الدستورية وتاريخ الصراع بين العلمانية والإسلام

لا أحد يشك أن المغرب يعرف حركة تطورية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي تبعث مظهريا على نوع من الارتياح، وهذا بعض ما يفسر ضعف الاحتجاجات الشعبية مقارنة بما وقع ويقع في كثير من بلدان العالم الإسلامي.

لكن رغم ضعف تلك الاحتجاجات إلا أنها تبقى ذات أهمية وخطورة، خصوصا في ظل استمرار الأحداث الدامية بين المواطنين وقوات النظام الظالم الغاشم في ليبيا، وكذا الكثير من بلدان العالم الإسلامي، مما يجعل احتمال تصاعد حدة الاحتجاج الشعبي بالمغرب في 20 مارس الجاري أمرا واردا، وعملا على تفادي هذا التصعيد عجل النظام المغربي بالبدء في إجراء تعديلات دستورية كانت موضوع الخطاب الملكي في 9 من مارس الجاري.
ورغم تناقض التيارات المغربية الإسلامية والعلمانية من حيث الإيديولوجيات والأهداف، فإن التعديلات الدستورية المعلن عنها لاقت شبه إجماع على أهميتها وحيويتها واستجابتها لمطالب الكثير من القوى السياسية والحقوقية، خصوصا المتعلقة بتحديد اختصاصات المؤسسة الملكية وفصل السلط، وتوسيع مجال الحريات الخاصة والعامة، فجاءت التصريحات متطابقة.
هذا التطابق رغم اختلاف الإيديولوجيات والمنطلقات والأهداف يمكن تفسيره بوحدة في تصور كلا الطرفين أن وجود دستور يحد من اختصاصات الملك، ويضمن هامشا فسيحا لممارسة الحريات الخاصة والعامة من شأنه أن يمنح لكل التيارات إمكانية المنافسة السياسية الحرة.
فإلى أي مدى يمكن أن يصح هذا التصور خصوصا بالنسبة للتيارات الإسلامية؟
بالرجوع إلى أعضاء اللجنة المكلفة بإنجاز التعديلات الدستورية نلاحظ أن مجموع التيارات العلمانية ممثلة فيها، باستثناء التيارات الإسلامية ومن سيدافع عن الشريعة الإسلامية، وأغلب أعضائها يتوزعون بين ممثلي النظام أو ممثلي التيارات السياسية والحقوقية وأغلبهم ذوو نزعة يسارية، ومعلوم أن الخطوة التي ستتلو إقرار التعديلات الدستورية، هي عملية واسعة لملاءمة كل القوانين الوطنية لمقتضيات التعديلات الجديدة.
والمرجع عند الخلاف والجدال سيكون هو نصوص الدستور المعدلة وليس فهم الأطراف التي لم تشارك في صياغتها، لهذا لا شك أن كل طرف ممثل في اللجنة سيعمل على اختيار الألفاظ التي تعبر عن مطالبه، والتي تستجيب لقناعاته وتوجهاته، وما دام أغلب الأطراف ذوي نزعة علمانية بل منهم من يكره الدين واللغة العربية كما هو الشأن بالنسبة للأستاذ لحسن أولحاج الممثل للتيارات الأمازيغية العلمانية.
فغياب ممثل للعلماء أو للتيارات الإسلامية سيؤثر تأثيرا بالغا في صياغة دستور لن يستجيب -والحالة هذه- إلا لتطور العلمانية في البلاد خصوصا أن المادة السادسة التي تنص على أن: “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”. ستبقى جامدة محنطة لا معنى لها سوى الاعتراف بإسلامية الدولة، الذي لم يسقط عن تونس خلال العقود الأخيرة رغم تبنيها صراحة للعلمانية، فجمود هذه المادة وعدم دلالتها هو ما يجعل العلمانيين ينعتونها بالنص الغبي.
إن هذه المادة يجب أن تخرج من “صَمْتها” وأن تفعّل أبعادها الحقيقية لتستجيب إلى ما يمليه معناها، وذلك باعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسا لسن القوانين، حتى لا نستيقظ يوما لنرى المطالب العلمانية بخصوص إقرار السحاق واللواط (الشذوذ) وتحرير تجارة الخمور وتناولها، والمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة وضمان ممارسة الأنشطة التنصيرية، والدعوة إلى الإلحاد قد تم قبوله بموجب التعديلات الدستورية.
وهذا ليس نوعا من التهويل لأن كل ما سردناه وغيره من الموبقات والطوام يمثل مطالب تشتغل على الحصول على إقرارها جمعيات وأحزاب ومنظمات علمانية.
فتلبية مطلب توسيع مجال ممارسة الحريات الفردية شيء طيب بل ممتاز لو كان الإسلام هو المرجعية التي ستؤطر التعديلات وتحدد الممارسات، أما والأمر على النقيض من ذلك، فإن الموقف يحتاج إلى يقظة ودفاع مستميت، خصوصا أن المرجعية الفكرية والحقوقية والسياسية للتعديلات التي ستتم على هذا المستوى هي مرجعية علمانية صرفة، مما يفرض على كل غيور على دينه سواء كان تحت حزب أو جمعية أو منظمة أن يطالب برفع الحصار عن المادة السادسة المذكورة، كما على العلماء أن يشاركوا في توجيه الناس وتنبيههم إلى خطورة المرحلة قبل فوات الأوان.
إننا لا ينبغي أن نخرج هذه التعديلات عن سياقها وسيرورتها التاريخية، والتي عرفت منذ أكثر من قرن صراعا بين شريعة الإسلام وبين الغزو العلماني لبلاد المسلمين عامة وبلاد المغرب خاصة، فعندما كانت العلمانية ضعيفة في بداياتها السحيقة في المغرب اشتمل نص الدستور الذي اقترح على السلطان ونشرته أسبوعية لسان المغرب بطنجة في أربعة أعداد -من 11 أكتوبر إلى الفاتح من نونبر سنة 1908م-، على إنشاء مجلسين مجلس الأمة ومجلس الشرفاء، وهذا المجلس الأخير وظيفته كما تنص المادة 54 منه: (“هي أن ينظر أدق النظر ويبحث أدق البحث في التقارير واللوائح التي يصدرها مجلس الأمة حتى إذا رأى فيها شيئا مغايرا لإحدى الشرائط الست الآتية يرفض تلك اللائحة أو التقرير رفضا قطعيا مع إظهار الأسباب الداعية إلى ذلك، أو لزم له الإصلاح والتصحيح، والشرائط الست التي يراعيها مجلس الشرفاء ويراقبها هي هذه:
الشرط الأول: “أن لا يكون هنالك شيء مما يمس أساس الدين وجوهره أو يخالف نصا من القرآن”.) التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير ج6/ص361-362.
فأين منطوق ومفهوم هذه المادة من منطوق ومفهوم المادة السادسة التي يراد لها أن تبقى جامدة خرساء لا ظل لها ولا لون؟
لقد أخِذ أساس الدين وجوهره والقرآن ومخالفته بالاعتبار آنذاك لأن العلماء كانوا قبيل صياغة مشروع هذا الدستور من المكانة والقوة العلمية والسياسية والاجتماعية ما خول لهم خلع السلطان مولاي عبد العزيز وتنصيب أخيه السلطان مولاي عبد الحفيظ.
أما اليوم فقد تلاشت هيبة العلماء من قلوب العامة لتعطيلهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسقطوا من اعتبار الخاصة لجري الكثير منهم وراء المناصب وتحصيل الفتات الساقط من موائد الأغنياء وأصحاب الجاه والسلطة، أما مَن لم يرض من العلماء بالذل والتبعية ويرفض أن يكون مجرد قِمع، أو أن يخون الميثاق الرباني الذي أخذه الله على العلماء فإن مصيره دوما هو التهميش والتضييق.
إن التعديلات الدستورية الحالية رغم أنها ستعطي هامشا من الحرية في العمل للتيارات الإسلامية إلا أنها تصادره من الجهة الأخرى ما دامت المرجعية الدولية العلمانية للحقوق والحريات هي المرجعية المعتمدة وليس المرجعية الإسلامية.
لذا نعود مرة أخرى لننبه إلى وجوب فهم التعديلات الدستورية على ضوء الصراع التاريخي بين العلمانية الوافدة من دول الغرب وبين الشريعة الإسلامية الأصل، وذلك حتى لا نغتر بالتعديلات لأنها فقط ستقيد اختصاصات الملك وتعطي تنافسية أكثر للأحزاب ما دام منصب الوزير الأول سيكون من حق الأغلبية البرلمانية.
فهذا التقييد لم يأت إلا بعد أن تغيرت مناهج التعليم وحذف منها كل ما يمت إلى الهوية الإسلامية ماعدا دروسا معدودة ضعيفة في ما أسموه تربية إسلامية لا قيمة لها في مُعامِلات المواد ولا تؤثر في نجاح أو رسوب.
فلم تأت التعديلات إلا بعدما تم تفتيت هيئات العلماء وإفراغ المسجد من دوره الرسالي في تربية الناس وتعبئتهم ضد الفساد والمنكر، وقصْر وظيفته على تعليم الناس مفاهيم للدين والشريعة تتطابق مع المفهوم العلماني للدين والتدين.
لم تأت التعديلات إلا بعدما أصبح للشواذ المغاربة والسحاقيات المغربيات جمعيات تدافع عن حقوقهم، وكثر أطفال الزنا حتى أنشئت الجمعيات لاحتضانهم.
فكل هذه التحولات الحقوقية والاجتماعية والقانونية هي التي ستحدد في صالح من ستكون التعديلات ومن سيستفيد منها على المدى القريب والمتوسط، فالتعديلات لن تساعد الصالحين على الوصول إلى الحكم، فأوربا وأمريكا يسود فيها هذا النظام لكن الذي يصل هو الأقوى وليس الأصلح، والأقوى هو من يملك القوة الخفية التي تصنع القوة المتمظهرة في الواقع على شكل أصوات تدخل الصناديق الزجاجية لتخرج منها مرة أخرى كراسي سلطة تشرع للناس ما تشاء.
والقوة الخفية هي لوبيات الاقتصاد والإعلام والجنس، هي الامتدادات الخارجية في شكل علاقات مع الكيان الصهيوني والدول القوية بظلمها واستغلالها ومنظماتها الدولية التي تتاجر في كل شيء حتى البشر، لذا نرى أن رؤساء الغرب لا يتوانون في زيارة جمعيات السحاقيات واللواطيين/الشواذ والعاهرات في كل حملة انتخابية، وبعد النجاح يرسلون الجيوش إلى أفغانستان والعراق والصومال، دون أن ينسوا مسح دماء الأطفال والنساء عن وجوههم بالأوراق التي كتبت عليها إعلانات حقوق الإنسان ووثائق المعاهدات الدولية لإحلال السلام، قبل أن يدخلوا إلى المؤتمرات ليتدارسوا إمكانية فرض الحظر الجوي على ليبيا من أجل مساعدة الشعب الليبي في ثورته على القذافي الدكتاتور الدموي.
لهذا كله نرى أن مرحلة ما بعد التعديلات تتطلب من المغاربة الذي يرومون رد الاعتبار للشريعة الإسلامية، تضحيات كبيرة أكثر من أي وقت مضى، في أولها إيجاد آليات لتوحيد الفهم الذي ستنبثق عنه وحدة في العمل ومن ثم تحصيل القوة اللازمة للتغيير الذي يفضي إلى الإصلاح، اهتداء بقول ربنا سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} الحج.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *