قوي الحديث عن التعليم ونكباته، وكثر اللغط عن أسباب فشله وإخفاقاته، لكن لا شيء يلوح في الأفق يبشر بالخير.
معضلة التعليم لا يقف وراءها المعلم الفاشل أو الإطار التربوي اللامسؤول أو التجهيزات المدرسية الضعيفة أو القسم المكتظ أو البرامج المرتجلة أو الأسر الفقيرة، أوآباء وأولياء التلاميذ المشغولون عن مراقبة أبنائهم بالجري وراء لقمة العيش، فكل هذه عوامل قد تكون من الأسباب التي أدت إلى إفلاس تعليمنا، لكن تبقى أهم العوامل والأسباب تتلخص في غياب إرادة حرة غير مرتبطة بالغرب ومؤسساته النقدية، متحررة من التبعية للمدرسة الأنغلوساكسونية أو نظيرتها الفرانكوفونية…
لا نماري في كون الاستعانة بالخبرة الغربية لا مانع منها، وفي كون الاستفادة من تجربة الأمم الأخرى مطلوبة، لكن المرفوض هو رهن تعليمنا العمومي بتوصيات الغرب ومؤسساته أو باستيراد برامج جاهزة وسياسات معلبة لا تراعي الوضع الحقيقي لعناصر العملية التعليمية، ولا تأخذ في اعتبارها أن الظواهر وإن كانت مشتركة بين الأمم إلا أن الحقائق غالبا ما تكون غير متطابقة إن لم تكن متناقضة في بعض الأحيان.
ولنا أن نستدعي التاريخ لنرى كيف كانت القرويين والمدارس العتيقة تخرج أفواجا من الشعراء واللغويين والكتاب والمصنفين، يتكلمون اللغة العربية كما لو أنها تخرج مع أنفاسهم بسلاسة ودون تكلف، في حين نرى المتخرجين من مدارسنا العصرية يتكلمونها وكأن الشياطين تتخبطهم من المس، ويكتبونها كما لو أنهم أعاجم، يستعملون الكلمات دون مراعاة لسياق ولا معنى.
وهذا ما سجلته الصفحة السابعة من التقرير السنوي 2008 للمجلس الأعلى للتعليم، عندما تحدثت عن ضعف التحكم في اللغات لدى المتعلم، يقول التقرير: “…نسبة هامة من التلاميذ الذين لا يتقنون لغة التدريس (العربية) على الرغم من استفادتهم من 3800 ساعة من تعلم اللغة العربية على امتداد مراحل التعليم الإلزامي”.
3800 ساعة من تدريس اللغة العربية لا تكفي لكي يجيد التلميذ لغته الأم، إنها فضيحة لها أكثر من دلالة، إنها حقيقة تفسر جانبا من الانحطاط الذي نعيشه في كل الميادين، وتفسر فشلنا على كل المستويات.
لقد مرت سبع وخمسون سنة (عمر الاستقلال) لكنها فيما يبدو لم تكن كافية لوضع سياسة تعليمية ناجحة، وربما على المغاربة انتظار خمسين سنة أخرى، لحل لغز الفشل المكتنف دوما لكل سياسة تعليمية تنتهجها الوزارة.
فلابد أن هناك تشخيصا خاطئا للواقع، وتقييما غير صحيح للخلل، ترتبت عنه أخطاء فظيعة على مستوى وضع الحلول والسياسات، الأمر الذي جعل منظومة التعليم تتهاوى حتى بلغت حالة الإفلاس، سار بخبرها الراكبون والراجلون.
إن استيراد الحلول، والاستعجال في وضع السياسات، والارتباط بالتوصيات الغربية بشكل آلي، لن يمكننا من الوصول إلى حلول لمشاكل التعليم البنيوية العميقة ذات الطبيعة المركبة والمتشعبة.
فمشاكل التعليم لا بد لها من دراسة شاملة تسبر أغوار كل مشكلة على حدة، وتتعمق في شرح الخلل بين عناصر العملية التعليمية التربوية، دون إغفال للبيئة التي توضع لها هذه الحلول، وبطبيعة الحال لا بد من توافر إرادة حكومية حرة وصادقة، وتوفير الميزانيات الكفيلة بإجراء الدراسات ووضع الخطط والسياسات وتنفيذها، ونؤكد على كلمتي “حرة” و”صادقة”.
إن وضع الحلول لمعضلة التعليم يتطلب من الساهرين على إصلاحه أن لا يقتصروا على البحث وراء تحديد ملامح البيداغوجيا، واختيار مضامين المقررات، وتأهيل الأطر التربوية، وتجهيز المدارس والثانويات، بل عليهم البحث في العلاقات بين كل عناصر العملية التعليمية:
– علاقة الوزارة بالمؤسسة التعليمية.
– علاقة إدارة المؤسسة بالأستاذ.
– علاقة الأستاذ بالتلميذ.
– علاقة التلميذ بالأستاذ.
– علاقة المدرسة بالأسرة.
فكل هذه العلاقات وحسن ربطها، وتدبير سيرها خلال السنة لابد أن يحتل المكان الأهم في وضع الخطط ورسم السياسات، وإلا كان لانفصال تلك العلاقات أو ضعفها تأثير سلبي فادح على العملية التعليمية التربوية برمتها.
ثم إن قطاع التعليم من أهم القطاعات التي يجب أن تشغل بال الجميع وعلى رأسهم من يتحمل المسؤولية عن القطاع، وكل من له سلطة أو قدرة على الإصلاح، فالنهوض بمنظومة التعليم وإصلاحها يتطلب حلولا تتجاوز اختصاصات القطاع وترتبط بقطاعات أخرى، وللأسف هي نفسها تحتاج إلى إصلاح سياسات تدبيرها، كالقطاع الاقتصادي الذي يفترض فيه أن يمتص البطالة ويحدث مناصب للشغل، ويرفع من الدخل الفردي حتى يستجيب لمتطلبات العيش الكريم، وتتمكن الأسر فيه من تحمل أعباء دراسة أبنائها ومتطلباتها.
والقطاع الاجتماعي الذي يفترض فيه أن يحل مشاكل السكن غير اللائق، ومعضلات إدمان التلاميذ للمخدرات، وموبقة الزنا التي يغرق فيها أغلب الشباب وما يرتبط بها من حمل وإجهاض ومشاكل أسرية واضطرابات نفسية.
والقطاع الأمني الذي يفترض فيه أن يوفر محيطا آمنا للتلاميذ من متصيدي الفتيات لتوظيفهن في الدعارة، ومروجي المخدرات والقرقوبي الذين يتربصون بالتلاميذ.
والقطاع السياسي الذي يفترض فيه أن يبلور القوانين والنظم الكفيلة بتدبير منظومة التعليم تدبيرا يسهم في الخروج من حالة الفوضى والإفلاس.
وقطاع الشؤون الإسلامية الذي يفترض فيه المشاركة في وضع البرامج والمقررات لتربية الأجيال على العقيدة الصحيحة، والسلوك الحسن، لتجنيبهم السقوط في مصايد الإلحاد أو التشيع أو التنصير والعلمنة والتغريب، وتقيه الوقوع في رذائل الزنا والدعارة والحمل من سفاح والإجهاض وتناول المخدرات والمسكرات…
فالتعليم الذي يريده المغاربة هو تعليم يستهدف القضاء على هذا التيه العقدي وهذا الاضطراب الهوياتي وهذا الاغتراب النفسي الذي يتخبط فيه المتعلم المغربي، والذي ينتج لديه حالة من الكراهية والتموقف السلبي من دينه وتاريخه وبلاده وأمته ومقومات هويته، فتتلقفه التيارات والدعوات المتربصة المذكورة آنفا.
التعليم الذي يريده المغاربة هو التعليم الذي لا ينتج الجهل المركب، ولا البطالة المقنعة، تعليم يجعل الإنسان أكثر إجابية وتفاؤلا، ويولد لديه الرغبة في العمل والبناء بعد تخرجه، بدل تعليم يجعل المتعلم منذ إدراكه للأشياء شبه مقتنع أنه لن يشتغل أبدا بالشهادات التي سينالها عند التخرج أو في أحسن الظروف لن يشتغل في تخصصه ولا في مستوى مؤهلاته، مما يفرز لديه الكسل عن العمل وانعدام الرغبة في البناء.
التعليم الذي يريده المغاربة هو تعليم متفوق يمزج بين الكفاءة والتربية حتى لا تصطاد التلميذ تلك الآفات التي تحتك به منذ خروجه من المدرسة أو البيت.
قال الشيخ الجليل البشير الإبراهيمي وهو الأستاذ والمتمرس بالتعليم ونظمه ومشاكله:
“الغاية من هذه المدرسة هي تربية هذا الجيل وتعليمه. وغاية الغايات من التربية هي توحيد النشء الجديد في أفكاره ومشاربه، وضبط لوازمه المضطربة، وتصحيح نظراته إلى الحياة، ونقله من ذلك المضطرب الفكري الضيق الذي وضعه فيه مجتمعه، إلى مضطرب أوسع منه دائرة، وأرحب أفقا، وأصح أساسا، فإذا تم ذلك وانتهى إلى مداه، طمعنا أن تخرج لنا المدرسة جيلا متلائم الأذواق، متحد المشارب، مضبوط النزعات، ينظر إلى الحياة كما هي نظرة واحدة، ويسعى في طلبها بإرادة متحدة، يعمل لمصلحة الدين والوطن بقوة واحدة، في اتجاه واحد.
غاية التعليم هي تفقيهه في دينه ولغته، وتعريفه بنفسه بمعرفة تاريخه، تلك الأصول التي جهلها آباؤه فشقوا بجهلها، وأصبحوا غرباء في العالم، مقطوعين عنه، لم يعرفوا أنفسهم فلم يعرفهم أحد”. البصائر العدد 145سنة 1951.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/ جريدة السبيل