بين الدكتور أحمد توفيق والعلامة عبد الله كنون

اختتم برنامج حوار في الأسبوع الماضي بالإشادة والتنويه بالعلامة الأديب والوطني الأريب؛ الشيخ عبد الله كنون (م. 1409هـ) رحمه الله.

وهو بذلك جدير؛ لمنزلته العلمية ومكانته الشرعية والوطنية.
إنه رجل الإصلاح الذي ترك بصمات ظاهرة في ما تقلده من مناصب وخلّفه من أعمال؛ فهو مؤسس المعهد الإسلامي بطنجة، وأحد مؤسسي رابطة العلماء، ورئيسها الأسبق، كما شارك في تأسيس الجمعية الوطنية الأولى بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ثم عين وزيرا للعدل.
وبنفي محمد الخامس هاجر إلى تطوان احتجاجا واستنكارا، وبعد الاستقلال تولى منصب الحاكم العام بطنجة، وأسندت إليه مهمة تصفية النظام الدولي الذي كان مفروضا على طنجة.
أما مؤلفاته العلمية والدعوية والأدبية، وإنتاجه الصحفي، وعضوياته العلمية والأدبية؛ فبحر لا تكدره الدلاء.. (ينظر: معلمة المغرب / ج 20 – ص 6832).
والتساؤل الذي يطرح نفسه: كيف يمكن أن نفهم تنويه الدكتور أحمد توفيق بهذا العلامة السلفي في ضوء التوجه الذي تنتهجه الدولة في التضييق على الدعوة السلفية، وما ترتب عليه من إغلاق دور القرآن السلفية، إغلاقا سوغه الوزير برغبة وزارته “في حماية المواطنين من الأفكار التي قال إنها تتعارض مع ثوابت المغاربة ووحدتهم المذهبية”!
فهل كان كنون رحمه الله يحمل أفكارا تتعارض مع ثوابت المغاربة ووحدتهم المذهبية، حين اختار السلفية منهجا للعلم والعمل والدعوة؟
ونوه برجالاتها من أمثال شيخه الدكالي الذي قال عنه:
“قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان لها غايتان شريفتان: الأولى إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع، لما كان له فيه من رسوخ القدم، والحفظ والإتقان… والثانية: وهي بيت القصيد الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم، والبرهان الساطع والحجة الناصعة، وندد بالخرافات والأوهام، وأطاح بالدعاوى الباطلة، والأقوال الواهية، وأقنع خصوم الدعوة قبل أنصارها بما لم يجدوا فيه دفعا ولا له ردا، وهكذا حدث تحول كبير في مفهوم الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى أدلة الفقه، وتخفف العلماء من التقيد بالنصوص المذهبية ومالوا إلى الترجيح والعمل بالسنة عند ثبوتها ونبذ ما خالفها. وكذلك ضعف الاعتقاد في المشايخ وتقديس الأموات، والغلو في الطرقية، والتعلق بتعاليمها التي ما أنزل الله بها من سلطان”(1 ).
لقد كان العلامة عبد الله كنون يؤمن بأن السماحة والوسطية والاعتدال إنما هي في السلفية التي عرفها المغرب منذ تشرف بالفتح الإسلامي، وسعت لإحيائها وتجديدها دول وشخصيات علمية وسياسية ووطنية يصعب إحصاؤها.
وهذا التوجه لا يلتقي مع سياسة إحياء الطرقية التي يقول عن دعاتها المصلح عبد الله كنون: “فأما الطرقي فلا كلام لنا عليه، ومهما بلغ ما بلغ من العلم والفقه ودراسة الحديث، لا يمكن أن يعد من أتباع السنة أو الداعين إليها إلا إذا قلبت الحقائق وغيرت المفاهيم خصوصا إذا كان غاليا في الطرقية كما هو شأن الكثير ممن أدركناهم وعرفنا أحوالهم”( 2).
لقد صرح الدكتور أحمد التوفيق بأن الكتاب الذي أصدرته الوزارة دليلا للأئمة والخطباء إلزامي، وصرح بأن مخالفه يطرد، وهذا لا يلتقي أبدا مع المنهجية التي دعا إليها العلامة عبد الله كنون حين قال: “وكانت الفتوى قبل اليوم تدور في فلك المذهب وقواعده، وتعتمد أقوال علمائه وحاملي رايته، لا تكاد تخرج عن ذلك إلا نادرا حينما يكون الدليل الشرعي واضحا وبمتناول الجميع، أما اليوم وبعد أن نشرت كتب السنة وشروحها وكتب الخلاف العالي والمذاهب الفقهية المتعددة، وأصبحت متداولة بين أيدي الناس، واطلع الفقهاء وطلبة العلم على ما بها من أدلة ومدارك تخالف ما كانوا يعهدونه ويتمسكون به في بعض المسائل؛ فإن المفتي الآن صار مطالبا بتخريج المسألة على مقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة وما في حكمهما، ومقارنة المذاهب وأقوال الأئمة والترجيح بينها”اهـ. من مقدمته لفتاوى العلامة محمد كنوني المذكوري.
إن هذا الكلام يدعو إلى الخروج من ضيق التعصب المذهبي إلى سعة فقه الدليل، في إطار ضوابط الاجتهاد الشرعية وآداب الخلاف المرعية، كما هو سلوك إمامنا مالك رحمه الله.
وإذا كان هذا هو توجه العلامة عبد الله كنون، فإن من الوفاء لعهده والشكر لسعيه والصدق والأمانة في الإشادة والتنويه به؛ أن يعمل على تجسيده على أرض الواقع، أو على الأقل عدم مصادرة حق من يؤمن به في الدعوة والتأطير الديني إلى درجة إغلاق دور القرآن، والضغط على القضاء للمصادقة على ذلك الحكم الجائر في جلسات قضائية تجاوزت المساطر القانونية، وجعلت تزكية قرار الإغلاق قائمة على مخالفات مزعومة من قبيل: عدم الالتزام بتقليد المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، ولا بما جرى عليه عمل المغاربة من طقوس وعادات مثل: رفع الصوت في تشييع الجنائز وقراءة سورة يس في المقابر جماعة..، وعدم الالتزام بالسلوك الصوفي، وعدم الاعتراف بتعظيم الأولياء والصالحين الذين يُسدُون الإحسان للناس أحياء وأمواتا والذين بنى المغاربة على قبورهم القباب والأضرحة لتبقى ذكراهم عطرة -حسب قول دفاع الداخلية-!!
فهذا لا يتناسب مع دولة الحق والقانون والعدل، ولا ينسجم مع الوفاء لعهد العلامة كنون للمغاربة بالعمل بالسنة عند ثبوتها ونبذ ما خالفها، وضعف الاعتقاد في المشايخ وتقديس الأموات، ونبذ التعلق بتعاليم الطرقية التي ما أنزل الله بها من سلطان …
وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ح.ق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8ـ9).

(2]) مجلة دعوة الحق العدد السابع (ص.7)/ السنة 1969م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *