رفع التحفظات.. هل سيكون آخر إجراء في مشروع علمنة المجتمع المغربي؟

يتساءل المرء مع هذه الضجة التي أعقبت عملية تهريب قرار رفع التحفظات عن المادتين 9 و16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة: هل سيكون رفع التحفظات هذا هو آخر إجراء سيتخذ في محاربة ما تبقى من الشريعة الإسلامية في القوانين المغربية؟
أم أنه يندرج ضمن حلقات سلسلة من التدابير والقرارات والخطط تنفذ متفرقة بينما تشكل عند تتبعها واجتماعها وتضافرها مشروعا مدروسا معدا سلفا، تطبق مراحله بعناية فائقة وفي صمت مُطْبق من أجل علمنة المغرب دولة وشعبا، بشكل تدريجي تجنبا لإثارة ردود فعل عامة الشعب المغربي، بحيث تبقى غالبيته بعيدة أو مبعدة عن إدراك ما يهدد هويتها الإسلامية وتاريخها كمغاربة، انصهرت عاداتهم وتقاليدهم العربية والأمازيغية في أحكام الشريعة الإسلامية، فشكلت نظما اجتماعية وثقافية بقيت عصية على سنوات من الكيد والمكر والخديعة.
إن ما يقلق ضمائر المؤمنين في المغرب هو ما تشكله مثل هذه القرارات من استهتار بالقناعات الدينية للملايين من المغاربة، الذين رأوا أن قرار رفع التحفظات كان اعتداء سافرا على نظام أسرهم المستمد من الشريعة الإسلامية؛ وينتظرون من دولتهم أن تصحح الخطأ، برسالة توضيحية تفسر معنى رفع تلك التحفظات وما ستنتجه من آثار على باقي القوانين الوضعية الوطنية، مع التأكيد على قداسة أحكام الشريعة وعدم قابليتها للتبديل أو التغيير، توجَّه إلى الجهة نفسها التي تسلمت رسالة رفع التحفظات.
فليس من المعقول أن تستمر الدولة في سياسة التجاهل لمطالب الملايين من المغاربة الذين أقلق ضمائرهم قرار رفع التحفظات.
فأين هو الناطق الرسمي باسم الحكومة؟
لماذا لم يفسر للمغاربة ماذا يعني هذا القرار الذي صدر عن حكومة هو لسانها؛ أم تراه هو أيضا لم يسمع به حتى قرأ تداعياته على صفحات الجرائد؟
وأين مؤسسات علمائنا خصوصا المجلس العلمي الأعلى؟
لماذا لم نقرأ له بيانا في الذب عن أحكام الشريعة المتعلقة بالزواج والإرث والولاية؟ بينما سمعناه يرعد ورأيناه يزبد لمجرد رأي فقهي في جواز تزويج الصغيرة؟
فكيف جاز له الصمت وكل ما تبقى من شريعة الإسلام مهدد برفع التحفظات المذكورة؟
إننا ندعو علماءنا وأساتذتنا وكل النخب الغيورة على ديننا وهويتنا وتاريخنا أن يتأملوا فيما تنص عليه اتفاقية سيداو، حتى يتبين للجميع حجم الخطر الداهم الذي يشكله قرار من قبيل رفع التحفظات المذكور، ففي المادة الثانية تنص الاتفاقية على ما يأتي:
“تشجب الدول الأطراف جميع أشكال التمييز ضد المرأة وتوافق على أن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ودون إبطاء، سياسة القضاء على التمييز ضد المرأة، وتحقيقا لذلك، تتعهد بالقيام بما يلي:
أ- تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال القانون والوسائل المناسبة الأخرى.

و- اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريع، لتعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة التي تشكل تمييزا ضد المرأة”.
فهل يمثل قرار رفع التحفظات عن المادة 16 إيذانا بتعديلات ستجرى في القابل من السنوات تبطل أحكام الإرث والولاية والقوامة والوصاية على الأبناء، وتبيح للرجل البوذي المشرك وللنصراني الصليبي أن يتزوج المغربية المسلمة؟
ألا يمكن اعتبار قرار رفع التحفظات بمثابة امتثال للفقرة (و) المذكورة آنفا، والتي تفرض على الدول الأطراف “اتخاذ التدابير المناسبة لتعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة التي تشكل تمييزا ضد المرأة”؟
ثم أليس التمييز بين الرجل والمرأة في الإرث وإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين، يعتبره العلمانيون المغاربة وخصوصا الحقوقيين منهم تمييزا ضد المرأة يجب القضاء عليه؟ وبرفع الدولة للتحفظات المذكورة تكون قد أعطتهم القوة الكافية وعبدت لهم الطريق للمطالبة بإلغاء أحكامه.
ورغم هذا الوضوح، قد يعترض أحدهم على ما قلناه بإبقاء الدولة المغربية على تحفظها على المادة الثانية، لكن اعتراضه واه، لأن هذا التحفظ يبقى كعدمه، مادامت قد رفعت التحفظات نفسها عن المادة 16 الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والمسؤوليات في عقد الزواج وأثناء الزواج وعند فسخه، وكذا فيما يخص الولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، لكون المادة 16 هي بمثابة التفصيل العملي للمادة الثانية.
فكيف يعقل أن نتحفظ على أحكام مجملة بينما نرفع تحفظاتنا عن أحكامها الفرعية المفصلة؟ إنه استغفال واستهتار!!
لذا نجزم أن ما عرفه ملف رفع التحفظات عن المادتين 9 و16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، يعتبر انعطافا خطيرا في مواقف الدولة المغربية، وتكمن خطورته في كونه ينحو إلى المزيد من إقرار مبادئ العلمانية وتثبيت أسسها في المجتمع المغربي المسلم.
ونحن عندما نحذر من العلمانيين ومخططاتهم الرامية إلى فصل المغاربة بالكلية عن دينهم وتاريخهم، إنما نستحضر تفانيهم في امتثال أوامر الغرب التي يفرضها على حكومات الدول الإسلامية، ودفاعهم عن فكره وثقافته ومنهجه، وعملهم الدؤوب في التمكين لنظمه العلمانية متترسين بالدفاع عن حقوق المرأة والديمقراطية.
إننا كما سبق أن طالبنا في مناسبات أخرى، في مسيس الحاجة إلى إجراء مفاصلة تامة مع العلمانيين في المغرب، وفتح النقاش حول نوع “الديمقراطية” التي نروم تحقيقها والوصول إليها، وتدارس ما يمكن أن تسفر عنه التدابير المستعجلة والملتبسة من مساس بالدين ومسخ للهوية.
فإذا كنا نتحدث عن الأنموذج الغربي لحقوق الإنسان وعن أسس الديمقراطية كما هو متعارف عليها دوليا، ونسعى إلى امتثالها في كل مناحي حياتنا، فإن علينا أن نقف متأملين تطبيقاتها في الدول الغربية، لأن الأمم المتحدة والغرب بصفة عامة لن يرضى عنا، إلا إذا حظي منا بالإذعان التام، لأن ما سطرته عقوله في المواثيق الدولية يعتبره أسمى من كل التشريعات الوطنية، سواء كانت مستمدة من الدين وشريعته أو من وضع البشر وإنتاجه.
وعندما نقول أسمى فهذا السمو يعنى هيمنة نظمه التشريعية على نظم بلداننا، ويعني بالضرورة إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة، وفي موضوع نقاشنا يشمل الإلغاء أول ما يشمل نظام الإرث وباقي النظم المتعلقة بالزواج.
ورغم أن الدستور المغربي قيد سمو الاتفاقات الدولية التي يصادق عليها المغرب، بشرط أن تكون داخلة في نطاق مثلث أضلاعه تتشكل من:
1- أحكام الدستور.
2- قوانين المملكة.
3- هويتها الوطنية الراسخة.
فإن عبارة “هويتها الوطنية الراسخة” التي شكلت ثالث أضلاع المثلث المقيد لسمو الاتفاقات الدولية على التشريعات الوطنية، تبقى من أضعف الأضلاع، بل تبقى مجرد إحالة على معدوم لصعوبة تحديد معنى “الهوية الوطنية الراسخة” ومضمونها ومستلزماتها، لما طرأ عليها من مسخ علماني وتحريف بدعوى الحداثة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنها غير ملزمة قانونا، لعدم تضمينها في أبواب وفصول قانونية تكسبها خصائص القاعدة القانونية وعلى رأسها خاصية “الإلزام”؛ مما يدفعنا إلى القول إن الاتكال على هذا الشرط هو من قبيل الكذب على النفس لصعوبة الدفع به.
والمؤسف غاية الأسف، أننا مع هذه التحديات الجسيمة، وأمام استكبار دول الغرب العلماني، وأمام خيانة وتسلط العلمانيين المغاربة، نسمع الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى الدكتور محمد يسف يكتفي بالتأكيد على أن أحكام الإرث لا يمكن أن تمس، تأكيد لا يعدو أن يكون مجرد كلمات يتوارى من خلفها الدكتور حتى لا يواجه الإرهاب العلماني الذي يكمم أفواه العلماء.
فهذه أمينة بوعياش تحدد للدكتور محمد يسف وظيفته ووظيفة المجلس العلمي وهيآته، بصفتها عضوا في اللجنة التي وضعت الدستور وبصفتها أيضا رئيسة جمعية حقوقية، فعندما طرح عليها سؤال: هل يجوز الإفتاء في قضايا الشأن العام من طرف الهيأة العليا للإفتاء التابعة للمجلس العلمي الأعلى في ظل وجود البرلمان؟
صرحت في معرض جوابها بركاكة ظاهرة قائلة:
“أظن الإفتاء ديال المؤسسة العلمية هي في مجال الاجتهاد في مجال الدين وليس في مجال كل ما هو وضعي، المغرب له قوانين وضعية وليست له قوانين ذات مرجعية دينية وبالتالي ..لما تم دسترة هذه المؤسسة فقط للحد من الإفتاءات التي هي ضد التطور وضد الحداثة”.
وهذا يعني أن العلماء لا حق لهم في انتقاد القوانين أو في المطالبة بملاءمتها مع الشريعة الإسلامية، وإنما وظيفتهم تتلخص في حماية المشروع العلماني الحداثي من أي عالم مشاغب يصدر فتاوى تنتقد القوانين أو تخالفها وتدعو إلى احترام الشريعة الإسلامية، لأن المغرب له قوانين وضعية وليست له قوانين ذات مرجعية دينية، على حد تعبيرها.
فما أجرأ العلمانيين وما أصفق وجوههم، يتحدون علماء البلاد وكافة الشعب ويستقوُون بحماية الغرب وأمواله، وبدعمه لهم بمنظماته وقوانينه، وما أشد هذا الهوان أن ترى العلماء حجة الله على عباده في الأرض يقصَون ويهمشون، وتناط بهم وظائف التسكين والتهدئة، بينما دعاة العلمانية يعيثون في الأرض فسادا ولا يحفظون لأي كان في البلاد حرمة ولا توقيرا، ولا يرعون لدين الله قداسة ولا تقديرا، “بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ”.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *