من خصائص الشعب أنه يحكمه قانون واحد، وإذا ما طبقت “قوانين” متناقضة في شعب واحد، أو قل: إذا طبق القانون في فئة من الشعب، وخرق بالنسبة لفئة أخرى، فهنا يصدق قول مغني الانقلاب في مصر: نحن شعب، وأنتم شعب، لكم رب، ولنا رب.
وهذا ما يشي به واقع تطبيق القانون في المغرب، على الرغم من أن الفصل الخامس من الدستور ينص على أن “جميع المغاربة سواء أمام القانون”.
لأن قضية إغلاق دور القرآن، مثلا، لا تستند إلى قانون، ولا ترجع إلى تصريح قضائي!
فعدم استنادها إلى قانون يرجع إلى أنها خاضعة لقانون 18 يناير 1958 المرتبط بتأسيس الجمعيات، وليست خاضعة لقانون 01.13 المتعلق بالتعليم العتيق، وهي لم تخرق قانون الجمعيات، فلم تم إغلاقها؟
وهل كانت الدولة غائبة، أو مغيبة كل هذه العقود، مادامت دور القرآن الكريم بمراكش تنشط في إطار قانون الحريات العامة منذ سبعينيات القرن الماضي، لتتجاوز عقدها الرابع!
أما كونها لا ترجع إلى تصريح قضائي، فمرده إلى أن أمر إغلاقها أتى من مندوب الأوقاف1 بمدينة ابن تاشفين، في رسالة وجهها إلى الدكتور محمد المغراوي رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة! ولم يصدر الأمر من جهة قضائية.
وثالثة الأثافي أن وزارة أحمد التوفيق عللت قرار المنع، بعدم التزام دور القرآن المعنية بالإغلاق برواية ورش، وتدريسها للقراءات العشر! مع أنها ليست وحدها من تفعل ذلك في الواقع، فضلا عن مدى وجاهة هذا التعليل، إن من حيث العقل والمنطق، أو من حيث الزاوية الدينية والدستورية.
فعلى مستوى الواقع توجد كثير من دور القرآن العتيقة التي تدرس القرءات العشر، على رأسها مدرسة سيدي الزوين بمراكش، كما توجد كليات مثل كلية الشريعة بأيت ملول، بل حتى القناة السادسة تبث درسا لكرسي القراءات.
أما بالنسبة للعقل والمنطق، فهل تدريس علم من العلوم يعد جريمة أو حتى جنحة؟
وأي علم؟
إنه علم القراءات الخاص بكتاب ربنا.
أو يريد أحمد التوفيق أن تدرس الفتوحات المكية لابن عربي، أو الطبقات للشعراني، أو رسائل التيجاني وأوراده؟
أما بالنسبة للزاوية الدينية والدستورية، فلأن الدستور ينص في فصله السادس على أن “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”.
وإذا كان الإسلام دين الدولة، فهل هناك دولة تمنع أن يدرس جزء من دينها المنصوص عليه دستوريا؟
إن قرار الإغلاق كان موضوعا في الرفوف، وكانت “الدولة” تتربص الفرصة لتنفيذه، فاستغلت أحداث 16 ماي، وأردفتها “باستغلال” ما سمي افتراء “بفتوى زواج الصغيرة”2 ، ثم بعد الانفراج الذي فرضه الربيع العربي، عادت الدولة لقرار الإغلاق بدعوى عدم الالتزام برواية ورش.
إذن، ما السبب الحقيقي للإغلاق، إن لم يكن القناعة الراسخة بوجود شعبين على الأقل بالنسبة للدولة، تعامل الأول بالقانون، وتعامل الثاني بخرق القانون.
شعب لفقت له تهمة ما يسمى بالإرهاب، فزج بجزء منه في السجون، وجزء أغلقت دور القرآن التي يعمرها، وجزء تم تحميله المسؤولية المعنوية، كما تم تهديده بحل حزبه.
دولة “الحق والقانون” تغلق دور القرآن دون سند قانوني، أو تصريح قضائي، فعن أي حق؟ وعن أي قانون يتحدثون؟ بل عن أي دستور جديد، وعن أي تغيير يتكلمون؟ ووزارة الأوقاف أضحت ملكا خاصا لأحمد التوفيق.
لكم كنت أتحسر على انحياز الإعلام الرسمي ضد “شعب” من الشعب أخذ من جهده وتفكيره ووقته وماله ليساعد شعبا يسكن الجبال بما استطاع من جهد المقل. وعوض أن يصحح الإعلام الرسمي هذا الانحياز المعاكس، ويؤوب إلى عدم التمييز بين أفراد الشعب، المسطر في الدستور، ويعطي لهذه الفئة من الشعب حقها في ولوج إعلامه الذي يستفيد من ضرائبه، كما يغدق على الجمعيات العلمانية بالظهور المستمر على شاشاته، حتى خرجت علينا الداخلية السنة الماضية بمنع وتوقيف مجموعة من القوافل الإنسانية لجمع المساعدات وتوزيعها على قرى أصقاع الأطلس والريف، وعلى رأسها المناطق التابعة لإقليم ميدلت، بدعوى أنها غير محتاج إليها أو أنها تسبب للسلطة مشاكل مع قرى أخرى لا تستفيد، وهو عذر أكبر من زلة.
كما تعرضت القافلة التضامنية الاجتماعية: “قـافلة سواعد الخير الشبابيـة” لشباب جمعية مبادرة فاعل خير الراشدية في نسختها الثانية، لفائدة ساكنة قصور تسراولين آيت يعدو وميشليفن بجماعة آيت يحيى قيادة أموكر دائرة إميلشيل إقليم ميدلت، للمنع من طرف مصالح عمالة إقليم ميدلت، بدعوى الخشية من توظيف هذه المساعدات من طرف أشخاص وجماعات محظورة، كما جاء في بيان لوزارة الداخلية!
وقد ذكرني الحكم بالنوايا هذا، بمشروع قانون تحصين وزراء الانقلاب في مصر من المحاكمة ضد الفساد، بدعوى حسن نواياهم، كما ذكرني بالحرب الاستباقية التي شنها “البوشان” العجوز والصغير، على ما يسمى الإرهاب، استنادا إلى النوايا، مع أن القوانين الدولية والوطنية لا تعرف شيئا اسمه النوايا.
مما يعني أن هناك شعبا لا يحاكم أبدا، “لحسن نواياه”، مهما اقترف من أفعال، وشعبا آخر متهم دائما “لسوء نواياه”، مهما كانت أفعاله شريفة، حلل وناقش!
ومما يدعو المرء للاستغراب والاستهجان معا، أن الأمر كان شفهيا، إذ تم رفض السلطات تزويد المعنيين بقرار المنع كتابيا، يوضح أسباب ودوافع المنع، ومثل هذا التصرف لا يصدر إلا عن سلطة انقلاب، أو سلطة احتلال!
لماذا تلجأ السلطة للمنع شفهيا، لأنها تعلم علم اليقين أنها خارقة للقانون، مادام الفصل التاسع من الدستور يضمن لجميع المواطنين “حرية التجول، وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة؛ وحرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله، وحرية الاجتماع… ولا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون”.
دور القرآن تغلق، ولو أنها لم تخالف دينا أو دستورا، والحانات والخمارات مفتوحة على مصراعيها ضدا على مقتضى الدستور، وضدا على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.
والجمعيات التي تعمل على مواساة بعض إخوانها، مشاركة منها في حمل هم هذا الوطن، تمنع من ممارسة نشاطها، في حين يترك الحبل على الغارب لجمعيات الفوضى والأنانية، بالجهر بانتهاك حرمة رمضان، وتبادل القبل على مرأى ومسمع من المجتمع المسلم، بل هناك من يمس الجناب الشريف صلى الله عليه وسلم بلسانه السليط، أو يتطاول على كتاب الله العزيز بقلمه الدنيء، والسلطات لا تحرك ساكنا، أو تمنع محظورا، لأن الشعب شعبان.
شعب يمثله موزعو القبل المحرمة دون وجود عنصر أمن واحد يردعه، وشعب يمثله (مول الكاسكيطة) يوزع المصاحف فتنبري السلطة لمنعه، بدعوى عدم الترخيص.
توزيع القبل لا يحتاج ترخيصا، وتوزيع المصاحف يستلزمه، لأن الدستور تم تقسيمه إلى علمانية وإسلام، وكذلك تم توزيع الواقع، إلا أن كل تمتع بالحريات يكون من نصيب الشعب العلماني، وكل مصادرة للحريات فهو يطال الشعب المسلم.
ولا حرج على حزب الاتحاد الاشتراكي، مثلا، أن يستضيف أو يشارك في مؤتمر الأممية الاشتراكية، داخل أو خارج المغرب، ولو تضمنت لائحة المشاركين حزبا صهيونيا مثل حزب العمل، لأن حزب الاتحاد الاشتراكي من الشعب العلماني، وفعله هذا لا يخرجه من الوطنية والمواطنة والمغربة.
كذلك لا حرج على التجمع العالمي الأمازيغي أن يجمع أمازيغ العالم، داخل المغرب وخارجه، دون أن يعترض أحد باسم الوطنية والمواطنة، والخصوصية المغربية.
غير أن الأمر يختلف تماما إذا تعلق الأمر بالشعب المسلم، إذا ما فكر مجرد تفكير في المشاركة، وليس الانضمام للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين مثلا، أو استدعى عالما، فضلا عن مجموعة من العلماء، اتخذوا طريقة السلف منهجا لهم.
نعم إن الأمر يختلف، لأن الشعب الآخر سينبري للحديث عن تهديد الخصوصية المغربية، وعن استقلال المغرب عن المشرق تاريخيا، فللمشرق رب، وللمغرب رب، كما يتم الحديث عن الفكر الدخيل، وعن الحفاظ على الأمن الروحي والقومي للبلاد.
——————-
1- هل تقمصت وزارة الأوقاف دور وزارة الداخلية؟ وأين وزارة العدل من كل هذا؟
2- لأن ما صدر عن الدكتور المغراوي، في معرض إجابته عن سؤال، لا يعدو أن يكون تفسيرا نقله من بطون الكتب.