في الدعوة إلى مراجعة فكرية

يظن من لا يهتم بشيء من التاريخ وهو يسمع دعوات العلمانيين للمسلمين إلى اقتفاء أثر الغرب، والتخلي عن خصوصياتهم لفائدة الثقافة الكونية: ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، أن هذه الدعوات وليدة اليوم، لكن الحقيقة أنها دعوات ما فتئ دعاة التغريب يطلقونها رغم ثبوت بطلانها، وتحقق آثار السلبية على مجتمعاتنا.

إن التبعية الفكرية للغرب لن نستطيع في ظلها أن نبني دولة قوية وفق ما يصلح أحوالنا، فالغرب ليس من السذاجة حتى يسمح بله يساعد الدول الإسلامية في اكتساب التكنولوجيا العلمية التي هي دعامة أي تقدم مادي في هذا العصر، وذلك لأنه استفاد من التاريخ أن تقدمه رهين بتخلف الدول الإسلامية، ومتوقف على أن يظل أبناؤها مستهلكين لما ينتجه حتى يضمن استمرار آلاته الاقتصادية في الإنتاج.
بدأت الدعوة إلى التبعية الفكرية للغرب منذ الاحتكاك الأول في بداية القرن 19، وذلك بعد انبهار النخبة في البلدان الإسلامية بما وصل إليه العلم في أوربا من اكتشافات ومخترعات، دفعتها إلى التنكر لماضيها ظنا منها أنه سبب التخلف الذي ترزح في ظله بلدانها، وصدقت وعود الغرب في مساعدتها قصد إحراز التقدم والازدهار، فانطلقت تدعو إلى فكره المادي عقودا من الزمن دون أن ترى أي أثر تنموي على أرض الواقع مما اضطر بعضها إلى إجراء، مراجعات لمنهجه الفكري بعد أن فقد الأمل في جدوى الجري وراء الفكر الغربي.
وكمثال على ذلك ما صرح به (محمد حسين هيكل) ١٨٨٨ – ١٩٥٦ (وهو اﻟﻤﺠدد الذي عرف بحماسته في عهده الباكر للتغريب والذي ينتمي إلى “الأحرار الدستوريين” غلاة اﻟﻤﺠددين آنذاك، وهو يتحدث تحديداً عن أزمته وأزمة جيله من المثقفين العرب الذين تعلموا في أوروبا، وصدقوا دعوتها للعلم والحرية والإنسانية، ثم عادوا إلى أوطانهم مخلصين لنداء التحديث فاكتشفوا الوجه الآخر للحضارة الغربية: “عاد هؤلاء إلى بلادهم يبشرون بالحضارة الغربية، لكنهم ما لبثوا أن صدمتهم ظاهرتان عجيبتان أثارتا دهشتهم لتناقضهما مع أصول الحضارة الغربية تناقضاً بيّنا،ً الأولى: هذه الحرب المنظمة التي يقوم بها الاستعمار الأوربي لحرية العقل… وقد راعهم من هذه الحرب أنها لم تكن تقبل هوادة قط، وأن ممثل إنكلترا في مصر لم يكن يأبى أن يكتب في تقاريره: إن مصر بغير حاجة إلى علماء بالمعنى الغربي، وإنما هي بحاجة إلى موظفين مطواعين. والظاهرة الثانية: انتشار المبشرين الغربيين في كل مكان من المدن الكبيرة والصغيرة بل في القرى يدعون إلى المسيحية ولا يأبون التعريض بالإسلام، ..ولكن مرور الزمن فتح عيونهم على حقيقة أخرى لم تكن أقل إثارة لدهشتهم من الظاهرتين اللتين قدمنا، فما يصدر الغرب للشرق من آثار حضارته قد وقف أو كاد عند أسوأ ثمرات هذه الحضارة وما كان يأتي بلاد الغرب من الربح المادي يمده بأسباب الرخاء والترف، فتجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو وجوقات الهذر المسرحي كان أول ما يصدم الناظر لآثار الغرب في الشرق، ولم يقدم الغرب إلى جانب هذا من صالح ثمرات حضارته ما يستر سوأتها هذه، بل هو كما قدمنا قد وقف حائلاً دون سرعة انتشار العلم الصحيح.
كان هؤلاء الشبان يجاهدون بكل ما يدخل في حدود طاقتهم لنشره والتمكين له ..ثم كشف تعاقب السنين من بعد الحرب الأولى عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوربا التي حاربت في سبيلها أربع سنوات تباعا والتي بذلت فيها مهج أبنائها ..لم تكن إلا قضية الاستعمار ومن يكون له حق التوسع فيه: دول الوسط أم الحلفاء؟
ثم بدت حقيقة أشد من هذه الحقيقة مرارة وإيلاما، تلك أن الغرب الذي تزعم دوله أنه تحرر من قيود التعصب الديني مازال يذكر الحروب الصليبية التي نشبت خلال القرون الوسطى بين المسيحية والإسلام، وإن كلمة “لورد اللنبي” يوم استولى على القدس وقوله إن الحروب الصليبية قد انتهت كانت تعبر عن معنى يجول بخاطر الدول الأوروبية جميعاً.
في ظل هاتين الحقيقتين الأليمتين جعلت دول الغرب التي وضعت يدها على العالم الإسلامي تمد في أسباب الجمود الديني عن طريق الجامدين المتعصبين، لتزيد الشعوب الإسلامية جمودا، وليزيدها الجمود ضعفاً ، وجعلت تحمي الجماعات التبشيرية الدينية و تمدها بكل ما تستطيع من قوة، وتحاول أن تحطم كل قلم وكل رأس يقف في وجه هؤلاء وأولئك”.
إن هذه الشهادة ضد أوربا، بل هذه المحاكمة لها يجب ألا يفوتنا مغزاه فهي تصدر بعد مرور أقل من عشر سنوات) ١٩٢٣ – ١٩٣٢ (على استقلال مصر وإقامة نظام دستوري برلماني حزبي على الطريقة الغربية في جو مفعم بالأمل في توجه مصر نحو الحضارة الغربية واستفادتها من قيمها وإنجازاتها، وهي شهادة لا تصدر عن شيخ أزهري ولا عن مفكر سلفي بل تصدر عن مثقف درس في أوربا وأعجب بحضارتها والتزم بالدعوة لها..ثم هاهو يقف وقفة مراجعة على ضوء تجربته وتجربة جيله المتحمس للتغريب) (1).
بعد هذه الشهادة أقول: ما أحوج مفكرينا في المغرب إلى مثل هذه المراجعات فليس من العقل والقوم يدعون تقديسه أن نمشي وراء الغرب ونحن نبصر ما وصل إليه من انحطاط خلقي وتفكك أسري، وفشو للجريمة، كل هذا تغطيه مظاهر وهمية للسعادة تكذبها معدلات الانتحار في صفوف أبنائه.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
السبيل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ملحق السياسة الأدبي، ١٤ جمادي ١٣٥١هـ / ١٤ أكتوبر ١٩٣٢ خاص بمؤتمر الطلبة الشرقيين نقلا عن كتاب تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي .«

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *