مهلا.. إن الإصلاح ليس أمرا سهلا

من منا لا يتوق إلى الإصلاح ويرضى أن يكون بعيدا عن أهله ومجالاته، فعبر تاريخ البشرية الطويل كان الإصلاح هو حادي المصلحين في حركاتهم ومشاريعهم ونضالاتهم، فجل الثورات التي قامت وأغلب عمليات التغيير التي حدثت، يرفع أصحابها شعار الإصلاح، ويهدف المشاركون فيها والداعمون لها إلى تحسين أوضاعهم ومعيشتهم، ورفع سقف الحريات، والتخلص من الظلم والطغيان وجبروت الدكتاتوريات.
إلا أن الإصلاح شأنه شأن مصطلحات أخرى من قبيل “حقوق الإنسان” و”حقوق المرأة” و”المساواة” وغيرها، كل طرف يفهمها وفق المرجعية التي ينتمي إليها؛ فالمسلمون يسعون إلى الإصلاح انطلاقا من هويتهم ودينهم، ويعملون على إصلاح واقعهم وتحسين ظروفهم انطلاقا من هذا الإطار، وغيرهم يرون الإصلاح بعيدا -بل مخالفا- لهذا الإطار المرجعي، ومنه يبنون مشروعهم “الإصلاحي” على أسس فلسفية ونظريات بشرية وضعية.
فقد نفهم سبب جنوح العالم الغربي إلى اختيار العلمانية منهج حياة، أو اعتبارها هي الحل، انطلاقا من تاريخ الغرب الأسود الحافل بالحروب والاقتتال، وصراع الكنيسة مع العلم، وعدم قبول هاته المجتمعات -التي تشربت الوثنية قبل اعتناقها النصرانية المحرفة- لدعوة التوحيد، ومحاربتها للدين الحق، ومهاجمة أهله في عقر دارهم عبر حروب صليبية متكررة، فقد اقترن في ذهن الإنسان الغربي أن الدين والتخلف قرينان.
لكننا بالمقابل لا نجد مبررا لمن يعيش بين أظهر المسلمين ويرفع شعار الغرب نفسه، ويكابر على اعتبار أن العلمانية هي الحل، ويرفض التحاكم إلى شريعة دين ينتسب إليه، ويرى أن الإصلاح يجب أن يكون بعيدا عن الإسلام عقيدته وشريعته، وفوق هذا كله يُشغِّب على المصلحين، ويعوق مسيرتهم بشتى الطرق الشريفة والدنيئة، وكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة.
فكم هو عدد التجارب التي عاشتها البشرية في شتى مجالات الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية..، خاضها أشخاص أرادوا الإصلاح فما زادوا البشرية إلا شقاء، اعتمدوا على عقولهم وحدها فخذلتهم.
فالمنصف لا يسعه إلا الاعتراف بأن أعظم المصلحين في تاريخ البشرية كانوا هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكلما جاء رسول إلى أمته إلا وأحدث تغييرا جذريا في مجتمعه مبناه على إصلاح ما أحدثه المفسدون من انحرافات وما اقترفوه من ظلم وفساد، معتمدين على إيصال دعوة الحق إلى الخلق، متحملين في سبيل ذلك ما تنوء بحمله الجبال، ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وليرسموا للبشرية معاني عظيمة في الإخلاص والبذل والعطاء والتفاني في خدمة الخلق، ومراعاة مصالحهم الدنيوية والأخروية، وفق شريعة ربانية ذات توازن بديع بين الروحي والمادي، والديني والدنيوي.
وكذلك كان حال المصلحين المخلصين الموفقين للطريق الصحيح، يبدؤون مشاريعهم بإصلاح عقائد الناس وتصوراتهم حول الكون والحياة والإنسان، ويحافظون على الحقوق والحريات في إطار الضرورات الخمس، ولا يستقلون في طريقهم بالعقل كمصدر وحيد يرسم خطى الإصلاح دون الشرع.
نعم للعقل مكانته، وهو نعمة من الله لا يجوز تعطيلها، ولا تدرك النصوص الشرعية أصلا إلا بالعقل، وقد رُفِع التكليف عن الذي لا يعقل، لكن للعقل مجالاته وحدوده التي ينتهي عندها.
فلم يقدس الإسلام العقل كحال الفلاسفة والمعتزلة، ولا ذمه مطلقا كحال الرافضة وغلاة الصوفية مثلا، وإنما وقف اتجاهه موقفا وسطا، والإنسان بطبعه قد يعتقد أنه تمكن من إدراك كثير من الأمور، وتبين له القطع في أحكامها، ثم ينكشف له بعد ذلك أنه كان مخالفا للصواب ومجانبا للحقيقة.
ورحم الله تعالى الشاطبي إذ قال: “فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما، لا يأتي عليه زمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن قد عقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم” الاعتصام 2/322.
فالاستقلال بالعقل دون الشرع قد أورد الإنسانية موارد الاقتتال والتطاحن، لأن تضارب المصالح وتدافع أصحابها وتقاطبهم لا بد أن تجعلهم يمانعون في إرساء إصلاح شامل يُؤخذ فيه للضعيف حقه من القوي، وللفقير حقه من الغني، ويعود بالنفع على كل أفراد المجتمع، فالمفسدون أو المستفيدون من بيئة الفساد لن يقبلوا بمشروع إصلاح يمس مصالحهم ويهدد مشاريعهم.
وللقارئ الكريم أن يجول بعقله ويتذكر تاريخ صراع دعاة الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وما تكبده العالم جراء الاقتتال على المصالح ومواطن النفوذ من خسائر بشرية فاقت 54 مليون قتيل في الحربين العالميتين فقط، وكل طرف من المتناحرين كان يدعي الإصلاح.
ولنسأل التاريخ عما حدث عقب ثورة فرنسا 1789م -ثورة الأنوار والحداثة على الظلامية والرجعية كما يدعي المستغربون!!- من قتل وتدمير ومذابح جماعية..
يحكي لنا المؤرخ الفرنسي “بيير كارون” الذي أصدر سنة 1935م كتابًا عن المذابح التي حدثت في السجون الباريسية، إبان عهد الثورة (02 شتنبر 1792م) فيقول: “إن هذه المذابح كان لها طابع “شعائري” جارف، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة، وأقام الدهماء من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في فناء هذه السجون، والغريب أن الذين كانوا يقترفون هذه المذابح كانوا يرتكبونها باسم الحرية وحقوق الإنسان والمواطنة والعدالة والمساواة” اهـ.
وأكد هذه الحقيقة “سيرجو بوسكيرو” رئيس الحركة الملكية الإيطالية فقال: “إن الثورة الفرنسية بحق قامت بأكبر مجزرة في التاريخ، أو على الأقل في الشعب الفرنسي، حيث قتلت 300.000 فلاح، وهي بذلك تعد منبع الإرهاب العالمي؛ إذ ولدت “ظاهرة الإرهاب” من الثورة الفرنسية” اهـ.
إضافة إلى أن هذه الثورة قد قضت على كثير من الأقليات، وعلى مجموعة من اللهجات، مثل لهجة “الأوكستانيان” و”البريتون” كما نقل الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في حوارات الهوية والحركة الإسلامية.
فمن يباشر الإصلاح من منطلق عقلي براغماتي مادي صرف لا بد أن يكون إصلاحه خداجا أو مشوها، يراعي مصالح طرف على حساب طرف آخر، ويخدم أطماع من ركبوا على موجة الإصلاح لقضاء مصالحهم الخاصة، في حين يبقى المصلحون الذين يستلهمون مشروعهم الإصلاحي من الوحي، ومن أصول وقواعد الشريعة أقرب إلى الصواب وإلى خدمة الإنسانية والمجتمع الذي ينتمون إليه.
إن الإصلاح عملية صعبة جدا تحتاج إلى وقت طويل، وعلم بقواعد التغيير ودربة على معالجة الفساد، وملكة في التواصل مع الناس، وحنكة في التعامل مع الخصوم المتربصين، كما تحتاج إلى سلطة إعلامية من أجل قطع الطريق على المشوشين الأفاكين، وموارد مالية ضخمة للتخفيف من حد الاضطرابات التي يقتضيها الإصلاح في بدايته، والتي غالبا ما يحدثها أو يتسبب فيها الفاسدون من أجل مساومة المصلحين؛ كما يحتاج الإصلاح الأبيض لا الأحمر إلى إقامة تحالفات مع خصوم أو مخالفين لكن دون تقديم تنازلات تمس الأصول التي ينبني عليها الإصلاح، وقبل هذا وذاك يحتاج الإصلاح إلى معرفة بالسنن الشرعية والكونية لوضع خطة إصلاح تعتمد على الوحي كأساس مع الأخذ بعين الاعتبار حال المسلمين وأوضاعهم ومدى تجذر الفساد في بنيات مجتمعهم، وقد يستعجل بعض المتسرعين الثمرة فيطالبون من يحارب الفساد بنتائج فورية في شتى الميادين، وهذا بعيد عن الشرع والعقل والتجربة.
السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *