السكوت عن المخالفات الشرعية بداية ترسيم النظم العلمانية

كل ما يمكن أن نعده من الموبقات والكبائر والمخالفات الشرعية، يمكن أن يصبح بفعل السكوت والتواطؤ الصامت سلوكا مقبولا، وبعد زمن يتم سن القوانين لتنظيمه، فيصير بقوة القانون حلالا ما كان بالأمس حراما، ويصبح حقا ما اعتبره الناس باطلا.

ولا يتم هذا التطور الاجتماعي إلا بعد تفكيك البنيات الأساسية المجتمعية التي كانت تضطلع بمهمة حماية المنظومة القيمية للجماعة أو المجتمع، فتفقد هذه المنظومة قوة الإلزام وصفة العموم، وبالتالي تفقد أهم خصائص أي قاعدة قانونية.
ولنأخذ قضية الخمر مثالا عن هذا، فبعد أن كان تناول أي مسكر يندرج في خانة الجرائم التي تعاقب عليها الدولة، وتسقط بها الأهلية فيصبح من تلبس بها مخروم المروءة ساقط العدالة لا تقبل شهادته لدى القضاء، أصبح اليوم من المغاربة من يطالب بإلغاء القوانين التي تمنع بيع الخمر للمسلمين علما أن القوانين التي صاغها المحتل العلماني الفرنسي ونص فيها على أنه: “ممنوع على الرعية من المسلمين أن يجعلوا محلات المسكرات التي تشرب فيها، ومن الممنوع أيضا أن يدخلوا في تلك المحلات لشرب تلك المسكرات”.ظهير 1913م متعلق بضبط محال بيع المسكرات.
فهل أصبح العلمانيون في المغرب أكثر علمانية من لا دينيي الاحتلال الفرنسي؟ أم أن المجتمع المغربي فعلا تطور تلقائيا نحو الحداثة التي لا تقر بمقدس سوى الحرية الفردية؟ أم هي نسبية القيم كما يدعي فلاسفة العلمانية في الغرب؟
في الحقيقة بالنسبة للسؤال الأول فالعلمانيون في المغرب أصبحوا يمارسون علمانيتهم ويدعون إلى نبذ بقايا الدين الإسلامي المتناثرة في القوانين المغربية دون أي اهتمام أو اكتراث، وذلك لما يتوفرون عليه من حماية خارجية إذ يعتبرون منفذي توصيات الدول الغربية العلمانية في المغرب والدافعين لعجلة التطور القسري لمنظومة القيم حتى تهيمن مفاهيم الحداثة بالمفهوم الغربي على كل مناحي الحياة في بلدنا المسلم، لهذا لا يمكن أن نتحدث عن تطور تلقائي لمنظومة القيم.
فكل سكوت عن المخالفات الشرعية من طرف العلماء والآباء والأمهات، وكل تساهل في زجر الجرائم المخالفة للقانون من طرف السلطات هو خطوة نحو ترسيم النظم العلمانية، فالمنظمات العلمانية تستند بالأساس على شيوع المخالفة لتطالب بتعديل القانون أو إلغائه، كما هو الحال في قضية المساواة في الإرث وقضية الخمر الراهنة، وقضية الأمهات العازبات التي لا محالة مع شيوع الزنا وعدم القيام بالزجر المطلوب ستفضي إلى المطالبة بإلغاء القوانين التي تجرم العلاقات الجنسية التي تنعقد بالتراضي.
إذاً، فعندما تُفكك البنيات المجتمعية أو يُجمد نشاط المؤسسات التي تشكل صمام أمان لاستمرار نفاذ القيم ومواصلتها لتأطير سلوك الأفراد، وفي المقابل يمكن للمفاهيم الوافدة المعادية لهذه المنظومة في مناهج التعليم وفي وسائل الإعلام، وتسن القوانين الحامية لتلك المفاهيم وتسخر الميزانيات العامة لخدمة مشاريع مناقضة للمرجعية العقدية الأصلية، فعندما نقوم بهذا كله هل يمكننا الحديث عن تطور اجتماعي تلقائي.
إننا في حقيقة نعيش صراعا غير متكافئ بين الإسلام والعلمانية، حيث أصبحت كل دعوة إلى الرجوع إلى القرآن والسنة تشجب باعتبارها توظيفا للدين في السياسة وكأننا في تركيا كمال أتاتورك وليس في بلاد تحكمها إمارة المؤمنين، وينص دستورها على أن الإسلام دين الدولة.
ومع ذلك، لا يجب أن يوظف الدين في السياسة لأنه مقدس والسياسة مدنسة لكن ليس بالمفهوم العلماني لكلمتي المقدس والمدنس والعلاقة الجدلية المزعومة التي يفتعل فيها التناقض الدائم بين السياسي والديني، فالإسلام هو من يوظف السياسة، بينما لا يقبل توظيفه سياسيا، بمعنى لا يقبل الدين أن تكون السياسة منفصلة عن مرجعيته مناقضة لتعاليمه، أو أن توظفه لأغراضها بالقدر الذي لا يخل بمرجعيتها البشرية المفصولة قسرا وعمدا عن ربانيته وقدسيته.
فالحل إذًا، لا يكمن في الفصل بين الدين والسياسة، بل علينا أن ننزع الدنس عن السياسة حتى تصلح أن تكون مؤطَّرة بالدين، وأن نرجع للإسلام اعتباره في المجتمع كإطار تنظيمي وليس كمعطى ثقافي حتى يستطيع إنتاج سياسة تتماشى مع التحديث، ولا تخضع لأهواء الحداثة بمفهومها الغربي المهرب في غفلة من حراس الحدود، الذين أنيطت بهم مهمة حماية المرجعية القيمية والعقدية للمجتمع من أي دخيل، والحيلولة دون تفككها.
هذا التفكك الذي لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان هناك تواطؤ سافر بين الفاسدين من أبناء هذه الأمة ومختلف هيئات حراسة الحدود، وحينها -لا قدر الله- تحل اللعنات، كما أخبر ربنا عز وجل عن مصير مَن كان قبلنا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}المائدة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *