التشغيب العلماني على تطبيق الشريعة

عندما أكملت بريطانيا صناعة عميلها كمال أتاتورك كي يكون بديلا للخلفاء العثمانيين وبعدما مكنت لحزبه العلماني من كافة السلطات داخل تركيا، أمرته بقبول الشروط المعروفة بشروط كرزون(*) التي قررت فرضها على العثمانيين المسلمين في مؤتمر لوزون سنة 1923م، والمتمثلة في الآتي:
1- قطع كل صلة لتركيا بالإسلام.
2- إلغاء الخلافة الإسلامية إلغاء تاما.
3- إخراج الخليفة وأنصار الإسلام من البلاد ومصادرة أموال الخليفة.
4- اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم.
وفي السنة الموالية 1924م عقد أتاتورك اجتماعا طرح فيه مشروع قرار بإلغاء الخلافة التي سماها (بالورم من القرون الوسطى) وقد اعتُمد القرار الذي شمل نفي الخليفة في اليوم التالي دون مناقشة. وأحرزت تركيا استقلالها بعد هذا الاستسلام المخزي واعترف بها الغرب جمهورية علمانية كما أرادها وخطط لها.
في حين بقيت الأقطار الإسلامية التي فصلها الغرب عن الدولة العلمانية تحت نير الاحتلال الغربي وفق ما سطره “سايس” و”بيكو” في المؤتمر المشهور باسميهما، وما دام الاحتلال الغربي المنتصر كان علمانيا فطبيعي أن يحرص على إلحاق الدول الإسلامية التي كانت تحت يده بالنموذج الغربي إلحاقا يضمن به استمرار تبعيتها له، الأمر الذي استلزم محاربته للحكم بالشريعة الإسلامية من خلال فرض نظمه القانونية على الشعوب الإسلامية، فحارب نظام القضاء الإسلامي وأحل محله نظاما قضائيا سن له قوانين وضعية نظم من خلالها شؤون المسلمين وعلاقاتهم، ولم يخرج من الأقطار الإسلامية حتى اطمئن بل اشترط أن تبقى مصالحه مضمونة ونظمه محترمة.
وبهذا تم إلغاء العمل بكل أحكام الشريعة في كل الميادين العامة، فتم الفصل بين قوة السلطان وأحكام القرآن، وأصبحت الشريعة الإسلامية التي استمر الحكم بمقتضاها في كل أنحاء العالم الإسلامي طيلة عمر الإسلام فيها، في حكم الغائب قسرا.
أمام هذا الوضع وبعد تصفية الاحتلال وإحراز الأقطار الإسلامية على استقلالها الصوري عمل العلماء والمخلصون على استئناف العمل بالشريعة الإسلامية، إلا أن نفوذ الغرب كان لا يزال حاضرا من خلال وكلائه من العلمانيين الذين صنعهم لمرحلة ما بعد الجلاء، فقاموا بالوكالة بإجهاض استئناف كل محاولة لتطبيق الشريعة، فحورب العلماء والدعاة وضُيق عليهم، وضرب الحصار على أنشطتهم، كما تمت مهاجمة شريعة الإسلام من خلال الإعلام والكتب واحتكار الجامعات ومؤسسات التعليم بصفة عامة وإخضاع التلاميذ لمناهج ومقررات علمانية مسخت هوية الشعوب الإسلامية وقطعت صلتها بدينها.
المقام يطول بنا إذا أردنا أن نسترسل في ذكر تاريخ الحرب العلمانية على الشريعة الإسلامية، لكن القصد هو تقرير ثلاث مسلمات:
1- أن الاحتلال الغربي العلماني ألغى العمل بالشريعة الإسلامية.
2- أن دول الغرب ترعى العلمانيين العرب وتمدهم بالدعم والمؤازرة من خلال منظماتها التي تزعم أنها غير حكومية، كما تمول نشاطاتهم وتضع برامجهم تحت ذريعة دعم الديمقراطية في بلاد المسلمين.
3- أن العلمانيين من أصل مسلم في كل البلدان الإسلامية يتولون مهمتين اثنتين:
أ- استكمال علمنة الدول ثم الشعوب.
ب- الحيلولة دون أي استئناف ولو كان جزئيا للعمل بالشريعة الإسلامية.
فعلى ضوء هاته المسلمات يمكن فهم كل ما يجري من صراع بين العلمانيين في العالم الإسلامي، سواء خلال سنوات ما أسماه الغرب الإمبريالي الحرب العالمية ضد الإرهاب، أو بعد سقوط فراعنة دول شمال إفريقيا، وإفراز عمليات التغيير فوز الأحزاب ذات التوجه الإسلامي.
فعندما نرى مواقف العلمانيين من الشريعة الإسلامية ونقرأ آراءهم، نجزم بصحة المسلمات الثلاثة المذكورة، خصوصا عند مقارنة تلك الآراء و المواقف بما أنتجه الحاقدون من المستشرقين الذين كانوا طلائع الجيوش الغربية خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث تجد شبهات كلا الفريقين حول الشريعة الإسلامية تتطابق وتتماهى بشكل يعطي الانطباع أن علمانيي الدول الإسلامية ما هم إلا أقماع أو رجع صدى للغرب.
رجع الصدى هذا نسمعه بشكل واضح بل نراه ونقرأه كل يوم في الصحافة العلمانية بالمغرب، ونأخذ على سبيل المثال العدد 4884 المؤرخ بـ30 يناير 2013م من جريدة الأحداث حيث أفردت صفحتين كاملتين لمجموعة من الصور نعتتها بالـ”صادمة لفظاعات تطبيق الشريعة من طرف المتطرفين”. صور أيدي مقطوعة، جلد وتعزير رجم.. وقدمت لها بعبارة: “اكتشفتها القوات الفرنسية بعد تحرير شمال مالي من الإرهابيين”.
ألا يكفي أن يكون مكتشف الصور هو القوات العسكرية الفرنسية المحتلة كي تفقد مصداقيتها، ما دامت طرفا في العدوان، خصوصا وأن الكل يعلم أنها جاءت لتثبيت حكم العلمانيين الذين يرعون مصالحها في مالي الجريحة.
وهل تفتقر القوات الفرنسية إلى تقنيات تركيب الصور خصوصا أن الحرب لديهم يستباح فيها كل شيء؟
فمعلوم أن كل جريدة تحترم نفسها وقراءها تربأ بنفسها أن تمشي في ركاب دولة محتلة لبلد مسلم، فأين غاب الحس النقدي للقائمين على الجريدة في حين لم يسلم من باطله حتى القرآن الكريم؟
ثم أين دعوة علمانيي الأحداث إلى الحوار و التفاوض وإلى نبذ العنف ورفض الحرب، أم أن الأمر يختلف كلما كان أحد الأطراف إسلاميا؟
إنه رجع الصدى..
القوات العسكرية الفرنسية بثت الصور..، والأحداث تلقت بالقبول والتسليم والإذعان فنشرت في المغاربة عشرات الآلاف من الصور تشوه الإسلام بذريعة أنها تحارب التطرف، بينما مقاصدها تتمثل في:
– التلبيس على القراء أن شريعة الإسلام هي الحدود والعقوبات فقط، في حين أنها لا تشكل إلا نزرا قليلا من أحكام الشريعة الإسلامية التي تغطي أبوابها كل مناحي الحياة.
– تكريس اتهامات العلمانيين لكل من يدعو إلى استئناف الحكم بشريعة الإسلام بأنه متطرف، يعشق الدماء وبتر الأعضاء وقطع الأعناق.
– ترك الانطباع لدى القراء أن كل قطع يد السارق وجلد الزاني وغيرهما من الحدود الشرعية هو مجرد تفسير متطرف للجماعات الإسلامية المتطرفة.
– ربط الدعوة إلى تطبيق أحكام الإسلام بالإرهاب.
ونحن عندما نحاول كشف تلبيسات العلمانيين ومواقفهم المخزية من الشريعة الإسلامية لا نروم الدفاع عن أخطاء الجماعات الإسلامية في استئناف العمل بأحكام الإسلام، كما أننا لا نؤيد الذين لا يقدرون ظروف الشعوب الإسلامية ولا يأخذون في الاعتبار ما تعيش فيه من بُعد عن الدين ومخالفة للعقيدة الصحيحة، وتخلف وفقر وتفكك وتبعية للغرب وتسلط على مقدراتها، واختراق منظماته لكل بنيات المجتمع، فربما يحتاج تطبيق أحكام الإسلام مع هذه الظروف إلى سنوات عديدة من التهيئة والتبيئة والتأهيل حتى يكون مستعدا لقبولها والتسليم لمشرعها سبحانه.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل.

ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) هو رئيس الوفد الانجليزي في مؤتمر لوزان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *