مَن الأجدر بالشك والريبة.. الإسلاميون أم العلمانيون؟

ولعل هذه الحقيقة هي ما تجعلهم يعيشون في خوف مَرضي من الأحزاب الإسلامية يتمظهر في شكل نفثات كريهة، مثل تصريحات العلماني الأمازيغي أحمد عصيد لأخبار اليوم في قوله: “يجب رفع الهمم والتعبئة العامة والشاملة وتكتل القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية في سبيل تحجيم الإسلاميين سياسيا”. العدد 596 بتاريخ 12-13/11/2011م.
فلماذا هذا الحقد وهذه الكراهية؟
أليست الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان تفرض على من اعتنقها كما هو متعارف عليها دوليا أن ينبذ الحقد والكراهية، ويتسامح مع خصومه وأعدائه؟
أم أن شعار محاربة الحقد والكراهية يُرفع حصرا عند محاربة عقيدة الولاء والبراء بمفهومهما الإسلامي بغية إماتتها، في حين يشرع الحقد والكراهية ويُستحبان إذا تعلق الأمر بالتيارات والأحزاب الإسلامية؟

مَرَّ على بداية الحرب “المباشرة” بين العلمانية والإسلام قرابة التسعين سنة، حيث ثم إسقاط الحكم بالشريعة الإسلامية في بلاد الخلافة الإسلامية على يد صنيعة الاحتلال البريطاني العلماني مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924م بعدما أجبرت بريطانيا الدولة العثمانية على الإذعان لشروط مؤتمر لوزان سنة 1923م والقاضية بـ:

– قطع كل صلة لتركيا بالإسلام.
– إلغاء نظام الخلافة الإسلامية إلغاء تاما.
– إخراج الخليفة ومصادرة أمواله.
– اتخاذ دستور مدني.
ومنذ ذلك الحين اتخذ العلمانيون كل الأساليب من أجل اجتثاث كل معالم الإسلام من الدولة والمجتمع، فمارسوا القتل والسجن والتعذيب في حق كل من يتشبث بالخلافة أو بأحكام الشريعة الإسلامية.
وبعد قرابة قرن من الاضطهاد والديكتاتورية فشلت العلمانية والعلمانيون في إحراز التقدم والازدهار المنشود، بل عم الفساد السياسي والإداري والأخلاقي الدولة بأكملها، مما دفع مؤسسة الجيش الحامي الأكبر للعلمانية إلى الرضوخ في النهاية للأمر الواقع تحت ضغط الشارع التركي واستفحال الفساد وتراكم الديون الداخلية والخارجية، فكف الجيش عن مضايقة الإسلاميين والقبول بالهزيمة أمامهم في الانتخابات والسماح لهم في إدارة الحكم في البلاد.
لكن الغريب هو أننا في المغرب لم نعرف مؤتمرا مثل مؤتمر لوزان ولم يفرض علينا تبني العلمانية، ولم تتخذ قرارات بوقف العمل بالشريعة الإسلامية، بل مر ذلك بشكل سلس تمثل في الإبقاء على القوانين والنظم الموروثة عن الاحتلال، ضمانا لمصالح اللوبي الفرنسي الذي لم يرغب في مغادرة المغرب، وفي التضييق على العلماء وحراس الشريعة، والتمكين للعلمانيين المنضوين تحت الأحزاب السياسية في الإدارات الحساسة والقطاعات الحيوية.
فالعلمانيون حتى قبل أن يحصل المغرب على استقلاله، بادروا بتبني العلمانية إرضاء للمحتل، فقد سجل لنا التاريخ كيف انتصب عبد القادر بن جلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال للدفاع عن العلمانية مدعيا أن حزبه حزب علماني، يقول الأستاذ إدريس الكتاني في كتابه المغرب المسلم ضد اللادينية، ص:10-11: “ولم يكد ينتهي المؤتمر أي “إيكس ليبان” حتى بدأ السيد عبد القادر بن جلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال بالمؤتمر والناطق باسمه -وكان يتألف من ثلاثة أعضاء آخرين من المكتب السياسي للحزب هم السادة محمد الشرقاوي وعبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة- بدأ يعطي تصريحات وأحاديث لمراسلي الصحف كان يهتم فيها على الخصوص بالتنصيص على نقطتين رئيسيتين في نظره:
الأولى: أن حزب الشورى والاستقلال “حزب لا ديني” (لايكي) ولذلك فهو حزب ديمقراطي تقدمي عصري!
والثانية: أن اليهود المغاربة يجب أن يشاركوا في إدارة الدولة المغربية وفي الحكومة الوطنية المقبلة التي ستنبثق عن حل المشكلة المغربية!
وكان في طليعة الصحف التي نشرت هذه الأحاديث الابسيرفر البريطانية، وفرانس أبسيرفاتور الفرنسية”.
منذ ذلك الحين دبت العلمانية شيئا فشيئا في بنيات المجتمع عبر الأحزاب والجمعيات الحقوقية، وعبر وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، بدعم سافر وآخر مقنع من طرف الدول الغربية، وبمراقبة حثيثة وتحفيز مُغر لتبني الديمقراطية كما هو متعارف عليها دوليا، ديمقراطية مبنية على نبذ الدين وإقصائه من مجال السياسة جملة وتفصيلا، حتى أصبحنا اليوم نسمع من يجاهر بالمطالبة بالحرية الجنسية وإباحة الإجهاض، بل يدعو إلى سن قانون يمنع استعمال الدين في السياسة.
فأي تطاول هذا في بلاد ظلت منذ نشأتها الأولى إسلامية شعبا وحكومة ودولة.
إن الغرب قد فصّل لنا ديمقراطية بالشكل الذي لو طبقت كما يشاء، لم يبق لنا من الدين شيء يذكر، فإلزام الناس بتوحيد الله انتهاك لحرية المعتقد مخالف لحقوق الإنسان مخل بالوصف الديمقراطي، فالإنسان حر في أن يدين لله أو للحجر أو لصنم بوذا أو أن يلحد ولا يدين بشيء.
فما نقوله ليس تفسيرا سلفيا للديمقراطية، بل هو المجمع عليه عند العلمانيين، ولنستمع لأحد مؤسسي حزب الأصالة والمعاصرة المسمى صلاح الوديع وهو بصدد الحديث عن بعض ما يخل بالديمقراطية:
“فإذا كان فكر ما يفاضل بين حزب وآخر لمجرد إعلان الحزب ولاءه لدين من الأديان، نكون قد أخللنا بِأُسِّ الديمقراطية، لذلك كان على هذه الأخيرة أن تتحصن ضد استعمالها لإرساء أضدادها. ولذلك كان على القانون أن يفرض عدم استعمال الدين في السياسة، كما أن منطق الديمقراطية وحقوق الإنسان يفرض الإقرار بحرية العقيدة وحرية الممارسة الدينية أو عدمها، أي حرية اللاتدين”. جريدة أخبار اليوم عدد 596 بتاريخ 12-13/11/2011.
منطق الديمقراطية وحقوق الإنسان هذا، يعتبره العلمانيون مقدسا حاكما على كل مصادر التشريع التي يستمد منها المسلمون نظمهم في الحكم، ومن هذا المنطلق طالبوا بإقرار سمو المعاهدات والأوفاق الدولية على التشريعات الوطنية في الدستور الأخير وقد تم لهم ذلك.
فكيف يمكن الإقرار بسمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية، وهي تتضمن الأسس والقواعد والنظم التي يجب أن تحترمها الدول في صياغتها لقوانينها الوطنية؟ بمعنى أن احترام وتنفيذ تلك المعاهدات والاتفاقيات هو بمثابة إقرار وقبول بالعلمانية كما هي سائدة في بلاد الغرب، وكل إخلال أو تحفظ بعدها هو خرق لمبادئ الديمقراطية أو انتهاك لحقوق الإنسان، وهذا هو السر وراء تقييد كلمتي “حقوق الإنسان” دائما بجملة “كما هو متعارف عليها دوليا”، و”دوليا” هذه تعني كما هو متعارف عليها في بلاد الغرب.
إذا، عندما يطالب العلمانيون الدولة باحترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، يطالبون على وجه الحقيقة بتبني العلمانية جملة وتفصيلا، لكن ما يبقي الالتباس قائما، ويزيد من إضعاف رد فعل المغاربة هو جبن العلمانيين وتحاشيهم الإفصاح عن مشروعهم الرامي إلى علمنة المغرب واكتفاؤهم بالتترس وراء ألفاظ ملتبسة من قبيل الحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطية والعقلانية، الأمر الذي يدل على خداعهم الكبير للشعب المغربي المسلم.
ولنا أن نتخيل مادمنا على مقربة من الاستحقاقات البرلمانية، لو تجرأ العلمانيون وصرحوا لعموم الشعب المغربي في وسائل الإعلام العمومية أن مشاريع أحزابهم الحداثية المبنية على مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليه دوليا، ترمي إلى أن يصبح المغاربة أحرارا في معتقداتهم أي أن أبناءهم وبناتهم إن استحبوا أن يصبحوا نصارى أو ملحدين فهذا شأنهم، ولا حق لهم ولا للدولة في ثنيهم أو منعهم، فهل سيصوت عليهم أحد من المغاربة الغيورين على دينهم؟
ولو بَيَّنوا لمن يبتزون أصواتهم، أن الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان كما يعتقدونها ويريدونها على أرض الواقع تمنع الدولة، أو أي جهة كيفما كانت، من انتهاك حرية الناس في أجسادهم، وبناء عليه فإن الحرية الجنسية ستصبح مكفولة بقوة القانون، الذي لن يعاقب بعد استكمال تطبيق كل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان في المغرب على الزنا مادامت تمارس بدون عنف أو اغتصاب؛ فإذا كانت لدى العلمانيين الجرأة والشجاعة وصرحوا بهذا أمام المغاربة دون التستر وراء عبارات من قبيل “كلنا مسلمون فلا داعي للمزايدة”، فهل يصوت أحد من المغاربة المسلمين على أحد من العلمانيين؟
بطبيعة الحال الجواب: لا. وبالمقابل ستفوز الأحزاب الإسلامية بالأغلبية المطلقة الكاسحة.
وهذا ليس لكون الشعب أمِّيّاً أو متخلفا بل لأن الشعب مسلم معتز بدينه.
ولعل هذه الحقيقة هي ما تجعلهم يعيشون في خوف مَرضي من الأحزاب الإسلامية يتمظهر في شكل نفثات كريهة، مثل تصريحات العلماني الأمازيغي أحمد عصيد لأخبار اليوم في قوله: “يجب رفع الهمم والتعبئة العامة والشاملة وتكتل القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية في سبيل تحجيم الإسلاميين سياسيا”. العدد 596 بتاريخ 12-13/11/2011م.
فلماذا هذا الحقد وهذه الكراهية؟
أليست الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان تفرض على من اعتنقها كما هو متعارف عليها دوليا أن ينبذ الحقد والكراهية، ويتسامح مع خصومه وأعدائه؟
أم أن شعار محاربة الحقد والكراهية يُرفع حصرا عند محاربة عقيدة الولاء والبراء بمفهومهما الإسلامي بغية إماتتها، في حين يشرع الحقد والكراهية ويُستحبان إذا تعلق الأمر بالتيارات والأحزاب الإسلامية؟
إن الحديث عن انعكاسات ونتائج مشاريع الأحزاب العلمانية أصبح من المسكوت عنه لدى العلمانيين، ويعتبره أغلبهم من الطابوهات التي يجب تجنب الخوض فيها، معتمدين سياسة المكر والخداع، مجتهدين في إخفاء حقيقة ما ستنتهي إليه مشاريعهم الموسومة بالحداثية، خصوصا على المستوى الاجتماعي والتعليمي والأسري، لذا نرى من الواجب محاصرة هذه المشاريع والتحذير منها، وإجراء مساءلات مستمرة عن مدى تلازم حرية المعتقد مع حرية الكفر بالله؛ والحرية الجنسية مع تقنين الزنا واللواط والسحاق؛ والمساواة بين المرأة والرجل مع إلغاء أحكام الإرث والوصاية.
فمَن الأجدر بالشك والريبة.. الإسلاميون أم العلمانيون؟
لقد أصبح من المقطوع به عند الشعوب الإسلامية أن العلمانية هي العدو الأول للإسلام والمسلمين، وأنه يكفي لسقوطها من نظم الحكم، أن يُخَلَّى بين الشعوب واختياراتها دون تدخل خارجي أو داخلي، لأن القاعدة الكونية الربانية قضت عندما ينهمر السيل يعلو الزبد فيغطي ما ينفع الناس، لكن سرعان ما تصفو الأجواء ويتوقف السيل عن التدفق لتأخذ الأشياء حجمها وتنال مصيرها: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ”.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *