حتى لا ينفصل تعليمنا عن التربية

أثارت قضية تدريس رواية الكاتب المغربي محمد زفزاف “محاولة عيش” لتلاميذ السنة التاسعة من التعليم الإعدادي المغربي في مادة اللغة العربية، سجالا قويا على صفحات الصحف الوطنية عكس مرة أخرى صورة من صور الصراع بين المرجعية الإسلامية والمرجعية العلمانية.

فاستند أنصار المرجعية الأولى إلى منظومة القيم الإسلامية رافضين إدراج الرواية قصد الدراسة من طرف مراهقين لا يمتلكون حسا نقديا يميز بين ما يضر بأخلاقهم، وذلك لتضمنها مجموعة من السلوكات المنحرفة، ولكونها “تحمل في طياتها تشجيعا للنشء على تبني ونقل مفاهيم سيئة ومنحطة حول الأسرة والزواج والعلاقة بين الزوجين، -بحسب شكاوى عدد من الآباء- والتي تقدم نماذج تغري المتعلمين بالجرأة على مخالفة تعاليم الدين الإسلامي وضرب أسس المواطنة الصالحة” التجديد عدد2223.
بينما اعتبر أصحاب المرجعية العلمانية أن استنكار تدريس الرواية هجوما على الإبداع “وذلك تأسيسا على معايير أخلاقية لا تستقيم بالضرورة مع المعايير الجمالية للأدب وللتحليل الأدبي، ولا مع الشرط البيداغوجي للعملية التربوية” الاتحاد الاشتراكي، وذهب بعضهم إلى أن محاولة منع الرواية من التداول الدراسي يشكل “موقفا متخلفا ورجعيا من الإبداع الأدبي السردي، وأن هذه المحاولة ليست هي الغارة الإرهابية الأولى ولا الأخيرة التي يشنها الظلاميون على الأدب المغربي”. نجيب العوفي /الاتحاد الاشتراكي.
لكن الأدهى والأمر أن تجد أحد أعضاء المجلس الأعلى للتعليم، يصرح بأنه “غير مسموح التهجم على عمل أدبي من منطلقات أخلاقية محضة..” عبد العلي مستور/ الاتحاد الاشتراكي.
أما أحد العلمانيين المتطرفين الأمازيغ فلم يكتف برفضه “انتقاء النصوص حسب منظور تيار أخلاقي أو ديني معين”، بل دعا إلى “الفصل بين المجالات فصلا منهجيا حسب الاختصاص، وإلا أصبحت كل المواد التربوية داخلة تحت وصاية التربية الإسلامية وتحت رقابة المسجد. إن ما ينبغي حذفه من المقررات الدراسية، لأنه لا يتطابق مع روح المرحلة، التي نجتازها هو مجموعة من مضامين الكتب الدراسية الخاصة بمادة التربية الإسلامية” أحمد عصيد/الاتحاد الاشتراكي.
إن أكبر العوامل المشجعة على اتساع المد العلماني في كل اتجاه يكمن بالخصوص في هيمنة أتباعه على قطاعي التعليم والإعلام، فهذه الرواية مثلا تمت برمجتها من طرف لجنة اختيار النصوص والمؤلفات بوزارة التربية والتعليم على عهد الوزير الاتحادي الحبيب المالكي منذ أزيد من ثلاث سنوات، مما يعني أن الوزراء العلمانيين لا يتورعون في التمكين لقناعاتهم العلمانية في مشاريع وزاراتهم ضدا على قناعات المواطنين المغاربة المسلمين.
لذا لا نشك في كون التعليم مسخ المعرفة لدى المغاربة بحقيقة الدين الإسلامي حتى صار المغربي مشوه التكوين مضطرب القناعات، يدافع عن قيم الغرب وهو يظن أنها لا تعارض الإسلام. فأصبحنا نسمع عن مؤمن صائم في رمضان ويدعم حق ملحد في أن يفطر عمدا دون عذر شرعي مستحلا للإفطار (عضوين من حركة مالي).
أما الإعلام فقد أضل الكثير من شبابنا بخبث الشبه الخادعة المزينة للباطل، وأضعف تدينهم بقوة الصور الإباحية القاتلة لكل معاني الحياء والعفة، خصوصا مع قلة بضاعتهم في العلم الشرعي، فصار الغرب بفضل خدمات التعليم والإعلام العلمانيين لا يحتاج في بلادنا إلى أن يدافع عن ثقافته بنفسه، ولا أن ينافح عن مصالحه بذاته بل أصبح أبناؤنا دون وعي يخدمون ثقافته، وينشرون عقائده، يضغطون على دولتهم أن تتبع ما ينتجه الفكر الغربي بدعوى الكونية وحقوق الإنسان.
إن تغلغل العلمانية في كافة بنياتنا التشريعية والثقافية والاجتماعية والسياسية والإعلامية، دمر كل مقومات الهوية حتى لم يعد في الإمكان الحديث عن الخصوصية المغربية، إلا كسياسة لردع جهات معينة بذاتها، مما يستثير السؤال، هل الثوابت المغربية واجبة الاحترام على فئة من المغاربة دون أخرى؟
فما تنتجه النخبة ليس إلا اجترارا لما سبق أن أنتجه الفكر الغربي، ففي السياسة لا يخرج السياسيون عما يسطره الغرب، وفي التشريع يكتفي الحقوقيون بالاستنساخ، وفي الفكر والثقافة فرجع صدى لكلام قديم شغب به علمانيو الغرب على دينهم ونظمهم، حتى أصبح أغلب مثقفينا مثقفون غربيون لا “مغربيون”، ينتجون ثقافة غربية بلغة عربية، لذا فهم لا يرون للمغرب خصوصية إلا في الفولكلور والشيخات، وحتى هاته الأشياء يوظفونها بالكيفية التي تخدم الهيمنة العلمانية.
أما العقيدة والشريعة والمذهب المالكي وكل المقومات التي أقيمت عليها الدولة المغربية فهي بالنسبة إليهم ذلك الثابت الذي صيرته الآلة الفكرية الغربية متحولا يجب أن يدخل في سكينة إلى المسجد ليفسح المكان للعقائد والمبادئ العلمانية في الإدارة والمصنع والمدرسة والمختبر والتلفزة.
لقد بات على الدولة خصوصا مع هذه الإخفاقات المتكررة لنظام التعليم أن تضع كل مكونات هذا النظام على المشرحة لتستأصل هذه الأورام الخبيثة التي تسببت فيها السياسات والبرامج العلمانية على مدى ثلاث وخمسين سنة هي عمر مرحلة ما بعد الاستقلال، فمنتج أدبي مثل “محاولة عيش” لا يمكن أن يدرج في نظام تعليمي إلا إذا كان مسؤولوه يفصلون بين التعليم والتربية وهذا لا نراه حتى في الأنظمة الأكثر علمانية مثل السويد أو هولندا، فهلا اتخذ مسؤولونا مواقف مفاصَلة مع العلمانية والعلمانيين حتى لا ينفصل تعليمنا عن التربية.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *