كلمة العدد

سُوِّدت الآلاف الكتب والبحوث, وتعددت أسماء المؤلفين وتنوعت الأطروحات, والنتيجة واحدة: هي صراع القديم مع الحديث, ويأسف المرء حقيقة لهذه الثنائيات المتصارعة -أو التي أريد لها أن تكون متصارعة-: القديم ضد الحديث, المرأة ضد الرجل, السياسة ضد الدين، الغني ضد الفقير, والحاكم ضد المحكوم و..
ويتساءل المرء لماذا نبني كل تصوراتنا على أساس التناقض والتنافر؟ ولا نبنيها على أساس التعاضد والتكامل؟ تلك قصة أخرى.
إلا أن اتهام الماضي وتحميله أسباب فشل الحاضر وعتمة المستقبل هو إحدى المنزلقات التي ينحدر فيها أغلب من يُنصِّب نفسه مصلحا للأمة, طبيبا يُنقب ويكشف عن دائها.
وذلك لأن الماضي بالنسبة للأمة نبراس تستهدي بنوره في ظلمات الجهل المتعالم, هذا الجهل الذي اكتسب اليوم زيَّ الفيلسوف والمثقف والأستاذ والباحث, هذا الجهل الذي عبث بكل شيء تفخر به الأمة باسم القراءة الجديدة للتراث, وباسم القراءة العقلانية للقديم, وباسم مساءلة العقل العربي عن أسباب تخلف الرجل العربي الذي لم يبق من عروبته إلا الاسم.
نساءل أولئك الذين تناولوا مباضعهم وأعملوها في تاريخ الأمة ودينها: هل كان ابن الهيثم وابن النفيس وجابر بن حيان وابن طفيل وابن خلدون منفصلين عن قديمهم وماضيهم يوم برعوا ونبغوا كل في ميدانه؟ ألم يتربوا في الكتاتيب القرآنية التي تحارب اليوم باسم الحداثة.
وقبل أولئك الرجال أين تعلم عمر بن الخطاب أليس في المسجد؟ من جعله عَلما على العدل والمساواة؟ أليست تعاليم الإسلام التي يراد لها أن تهجر مناهجنا ومقرراتنا؟ أم تراه تتلمذ على يد الأستاذ “كامبيس الأمريكي” في دار الحديث الحسنية.
إن من أكبر الأخطاء التي ارتكبت ولا تزال ترتكب اليوم في مجال الإصلاح: إصرار من يتولى هذه المهمة الصعبة على تغيير قناعات أمة من أجل نخبة, إصرار على أن تتوقف قلوب الناس عن حب هذا الدين العظيم بمفاهيمه وقيمه، بتشريعه وعقيدته، بنقائه وقداسته, وأن تنصت لأناس تخالف أقوالهم أفعالهم، ويُستأجرون لإلقاء الدروس في المساجد فإن أعطوا نصحوا الناس، وإن لم يعطوا كفوا ألسنتهم عن الدعوة هذه واحدة.
والثانية: إننا عندما نمنع الدين من أن يؤطر ويراقب السياسة والاقتصاد والقضاء والإدارة والإعلام، نعمل بذلك على خلق التناقض في مجتمعنا الإسلامي, فكيف يمكن للعالم الفقيه أن يقنع مَن جرفهم تيار الغلو والتطرف بالقبول بقانون يمنع بيع الخمور للمسلمين، في الوقت الذي يجدون أنفسهم محاصرين بشتى أنواع الخمور في الحانات والأسواق الممتازة ناهيك عن مروجيها في الأحياء؟
لم يعد من السِّر القول: إن كل ما يُنتج من خمور في مغربنا يصب في بطون أبنائنا وللأسف الشديد بناتنا أيضا, فتخرب بذلك الأسر وتتشتت, وتعمر السجون والإصلاحيات, فمِن أين يأتي الإصلاح؟
أما الثالثة: فمسألة انتشار الخمور والربا والزنا والقمار و… تربك الفقيه والداعية وتحرجهما، فكيف يمكن للمؤطر الديني أن يجيب بما يمليه عليه الإسلام من إنكار وتحريم، بخصوص تلك الموبقات؟
فإن هو فَعل ووضح للناس أمر دينهم ونصح لهم كان متناقضا مع حكومته ومع برلمانه ومع سياسيي بلاده.
وإن هو تملص وتهرب واقتصر على الحيض والنفاس والطهارة؟ لم يلتفت له الشباب وزهدوا فيه، وهذا حال الغالبية الساحقة ممن يؤطرون الحقل الديني تحت إشراف وزارة الأوقاف.
من هذه المنطلقات أصبح لزاما على الساهرين على إعادة تأهيل الحقل الديني وإعادة تنظيمه وهيكلته، أن يتنبهوا إلى أن بناء علاقة بين العلماء وأئمة المساجد وخطبائها من جهة والمواطنين من جهة ثانية، يستلزم بالأساس أن يتغير هذا الخطاب الديني البارد الذي لا يستجيب لحاجيات المواطن المغربي المسلم, هذا المواطن المسلم إنما يقصد المسجد أو يجلس يتابع داعية على الشاشة للبحث عن كلمة تستحثه على التفكير في المعاد من قبر وحشر وحساب وجنة ونار…, لا أن يحدثه الخطيب عن أهمية مادة “اليود” بالنسبة للتغذية، فرغم أن الجانب الصحي لا بأس أن يتناول في جزء من الخطب إلا أنه لا يحسن أن يستحوذ على الخطبة كلها، مما يدفع الناس وخصوصا الشباب إلى العزوف عن خطب ومواعظ وزارة الأوقاف للبحث عن دينهم في القنوات الفضائية.
وأخيرا: ربما يتساءل بعض القراء لماذا بدأت بالعلاقة بين القديم والحديث ودلفت فجأة إلى وزارة الأوقاف والخطاب الديني؟
فأقول جوابا: لأن الدين والتدين، هو ذلك القديم الذي يطلب منه أن يذعن للحديث, والحديث هو هذه المؤسسات العامة والخاصة التي تدعو المواطن وتبشره بالحداثة وتطمئنه أن لا خوف على دينه من حداثة مستوردة, حداثة تطلب من كل قديم أن يغيِّر نفسه إذا أراد البقاء والاستمرار.
أما لماذا وزارة الأوقاف, فلأنها المؤسسة العامة التي أخذت على عاتقها أن تُحدِّث الدين وتصلحه حتى يتلاءم مع العصر!! دون أن تقلق “العصر” وتطلب منه أن يترك خمره, وزناه وقِمَاره وشذوذه وسفوره وعلمانيته وأن تعلن عن تشبثه (أي العصر) حقيقة لا مراوغة بالدين عقيدة ومنهجا وشريعة وسلوكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *