من يتأمل التاريخ الحديث للدول الإسلامية يلاحظ أن شعوبها لم ينقطع مسلسل التقتيل فيها، وأن ممتلكاتها وخيراتها تستنزف بشراسة، وتتعرض للدمار بشكل مستمر ودائم، فبالأمس انقشعت ظلمة الاحتلال الفرنسي في الجزائر -فقط- عن مليون ونصف المليون من قتلى المسلمين، وعند سقوط بغداد في يد المغول الجدد الأمريكان بلغ عدد قتلى المسلمين في العراق مليون مسلم، ولا زال إلى اليوم مسلسل التقتيل مستمرا بالعشرات كل يوم بفعل الحرب الطائفية التي أشعلها الأمريكان بتمكين الصفويين الرافضة من رقاب العراقيين السنة.
ولو أضفنا إلى ذلك عدد قتلى المسلمين في البلدان التي كانت تحتلها فرنسا وبريطانيا لِوحدهما لَوجدنا الحاصل بالملايين، ..وتكبر النتيجة ويتضخم مجموع قتلى المسلمين بشكل مهول إذا أضفنا مجازر البلاشفة في روسيا وأوربا الشرقية وما اقترفه الشيوعيون في يوغسلافيا، سواء في بداية تأسيس دولهم أو إبان انهيارها.
وحتى يكتمل المشهد نضيف إلى القائمة مئات الآلاف من قتلى الفلسطينيين الذين ذبحوا على يد الوكيل الأمريكي (الكيان الصهيوني) منذ 1947 إلى اليوم. دون أن ننسى عدد قتلى لبنان والصومال والأفغان.
فالحاصل أنه منذ تغلبت الحضارة الغربية العلمانية على الحضارة الإسلامية وبلداننا تُغزى ولا تغزو، وشعوبنا تلاقي التقتيل والتشريد.
وقد يتساءل بعض القراء عن قتلى مبارك وقتلى القذافي وقتلى بشار وقتلى السيسي هل سقطوا على يد الجيوش الأمريكية أو الأوربية؟
أكيد أن أمريكا وأوربا والكيان الصهيوني أيضا برآء من سفك تلك الدماء، لكن في الظاهر فقط، فالكل يعي جيدا أن الذين قاموا بالأعمال الوحشية إنما قاموا به بالوكالة، إذ من الحمق أن يتخيل إنسان سَوي أن الغرب (أمريكا والكيان الصهيوني والاتحاد الأوربي) سيسمح بصعود الإسلاميين -مثلا- في مصر إلى مراكز الحكم، ويترك مصالحه الإستراتيجية وهيمنته تتقوض ولا يتحرك، ولنا أن نتخيل لو تركت مصر بعد ثورتها تبني قوتها، واستطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه تركيا، كيف سيكون مصير الكيان الصهيوني؟ وهل تبقى لأمريكا سيطرة على الخليج ودوله؟
المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في ندوة بجامعة كولومبيا الأمريكية، أكد في الأسبوع الأخير من السنة الماضية أي قبل ستة أشهر من الانقلاب على الشرعية “أن مصر تواجه ظروفا سياسية قاسية وتحديات صعبة، بسبب دعم بعض الدول العربية لبعض المعارضين للنظام السياسي الجديد. وأنهى تشومسكي حديثه قائلا إذا ما نفذ مرسي هذا المشروع العملاق في منطقة قناة السويس، فإن مصر ستنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصادياً”.
ويشهد لهذا التحليل كلام لأحمد شفيق المرشح الأبرز ضد مرسي -والذي حاولت الدول العربية والغربية دعمه حتى لا يفوز الإخوان بالرئاسة-، صرح فيه بضرورة إسقاط مرسي قبل إبرام صفقة قناة السويس.
فإذا استحضرنا تواطؤ الإعلام الغربي الذي تتحكم فيه الشركات الاقتصادية الكبرى وتجاهله لجرائم الانقلابيين بل تزييفه للحقائق، وأخذنا بالاعتبار السكوت المخزي لقادة تلك الدول على مذابح السيسي والانقلابيين، اتضح لنا أن السيسي وعلمانيي مصر إنما كانوا يقتلون ويخربون بالوكالة عن الكيان الصهيوني وأوربا وأمريكا.
أما في سوريا فقد فاق عدد قتلى المسلمين فيها مائة ألف، ولم تحرك كل هذه الدماء الأمم المتحدة للقيام بأي ردع، في حين تحركت كلمح البصر لدك العراق في حرب الخليج الأولى، وفرضت الحصار على أطفاله مدة عشر سنين، ثم اختلقت له قضية حيازته لأسلحة الدمار الشامل؛ فكانت النتيجة أن أجهزت عليه وأحلت به الدمار الشامل، بعد أن شتت جيشه واستنزفت قوته، ليصبح اليوم أشبه بدويلة في أواسط أفريقيا تنهشها الحرب الطائفية، وأصبح العراقيون يتمنون حكم صدام رحمه الله، من شدة أثر الذل والخوف والمهانة والبؤس الذي هيمن على حياتهم.
فهل جلبت جيوش العلمانيين الذين كانوا يشكلون المعارضة العراقية الموالية للغرب في الخارج والذين ساهموا بالنصيب الأوفر في إسقاط العراق في يد أمريكا هل جلبوا لشعوبهم الأمن و”الديمقراطية” أم كانوا مجرد معاول هدم كما هم إخوانهم في مصر اليوم؟
وهل حققت لهم أمريكا وعودها بالديمقراطية والرخاء؟
فإذا كان القتل في العراق قد تم بيد أمريكا فإن القتل في سوريا اليوم يتم بتأييد روسيا وحمايتها..
أكثر من مائة ألف سوري قتّلوا آلاف مؤلفة من النساء رُمِّلن، ومثلهن من الأطفال ذبحوا، ولم تستطع أمريكا تحريك منظمتها التي تحكم بها العالم، فلماذا يا ترى عجزت الأمم المتحدة على القيام بضرب النظام السوري السفاح رغم ارتكابه لمجازر ضد شعبه تعتبرها الأمم المتحدة مجازر حرب تستحق التدخل العسكري؟
الجواب: لأنها لم تستطع أن تكون أمما متحدة في القضية السورية، نظرا لتعارض المصالح القومية والحسابات الجيوسياسية لدول الفيتو.
لكن بعد مجزرة الغوطة واستعمال السفاح بشار للأسلحة الكيماوية، تقوى جانب أمريكا وحلفائها، فأصبحنا على مقربة من أن نرى المزيد من قتلى الشعب السوري المسكين بأسلحة أمريكا، فقد صرح أوباما “أن إدارته جاهزة خلال الأيام القلية القادمة لتوفير معلومات لكل عضو بالكونغرس عن العملية (مجزرة الكيماوي)، وشدد على أهمية تحمل الجميع للمسؤولية دون انتظار تقرير المفتشين الدوليين أو إذن من مجلس الأمن الذي وصفه بالمشلول عن محاسبة الأسد، وجدد مطالبته لكل أعضاء الكونغرس أن يصوتوا “في ضوء مصلحتنا الوطنية” -حسب قوله- مضيفا أنه لم يتم انتخابه ليتجنب القرارات الصعبة، ولا أعضاء الكونغريس “فقيمنا لا تسمح لنا بالابتعاد عن جريمة أودت بحياة المئات.
أين كانت أمريكا طوال ثلاث سنوات من التقتيل والتشريد حتى لم يبق في سوريا ما تدمره طائرات أمريكا؟
أين كانت وعَدَّادُ الموت كل يوم يضيف إلى أرقامه المئات من القتلى؟
لماذا لم تتجاهل أمريكا مجلس الأمن وانتظرت إلى حين ارتكاب مجزرة الغوطة؟
الجواب: لأنها تحافظ على قواعد النظام الدولي في توزيع النفوذ واستغلال الشعوب ونهب الثروات.
فمن أهم قواعده أن الأسلحة النووية لا يمتلكها إلا الكبار أو من يرتضونه من حلفائهم، ولا يستعملها أحد سوى أمريكا كما فعلت في اليابان، أما الأسلحة الكيماوية فلا يمكن مراقبتها بشكل صارم لكن لا ينبغي أن يستعملها في العالم غير أمريكا وحلفائها كما فعلت في العراق وغيره، لهذا صرح أوباما مزمجرا: “إن عدم اتخاذ إجراء بحق مستخدم الغازات السامة يجعل من حظر استخدامها مَسْخرة..إنها باتت تهدد أصدقاء الولايات المتحدة بما في ذلك إسرائيل والأردن والعراق”.
فتحرك أمريكا يحكمه دائما أمران:
-الأول: تحقيق المصلحة الوطنية لأمريكا، والحفاظ على الأمن القومي لها.
-الثاني: الحفاظ على النظام العالمي ذي الأحادية القطبية، وردع الدول الخارجة عنه والتي تعتبرها أمريكا دول الشر.
إننا سنظل نعيش القتل والتشريد ما دمنا نعترف بنظام دولي لم نشارك في وضع قوانينه ولا نملك أي قوة في تغييره أو تعديل نظمه، إننا سنستمر في حياة الخسف مادمنا نرضى ونستمرئ أن يحكمنا نظام دولي يعلم الجميع أنه يأتمر بأمر دولة لها تاريخ أسود في سفك الدماء وهتك الأعراض، سنظل نعيش القهر والذل مادامت دولنا مرهونة لبنوك الغرب، تأتمر بإملاءات مؤسساته المالية، التي تعتبر أهم مؤسسات النظام الدولي، وأكبر مهيمن على اقتصادياتنا وأهم مؤثر على القرار السيادي في بلداننا.
إن الشعوب الإسلامية ستبقى تتفرج على نعوش قتلاها تمر كل يوم بين يديها تحمل خيرة أبنائها إلى قبورهم، ما دامت تحكمنا نظم كنظامي الإمارات المتحدة العربية والمملكة السعودية الَّلذَيْن أيدا القتلة دون شفقة على الموتى في الميادين، حفاظا على مصالح مادية من المؤكد أنها لن تحفظ بسفك الدماء وإزهاق الأرواح، وخوفا على كراسي الحكم التي لن تثبت في ظل الاستبداد والظلم، فمادامت تسوسنا نظم تدمن التواطؤ على القتل والتدمير فلن نعرف الأمن ولا الرفعة، ولن نعيش في كرامة وعزة، ولن ننعم بثرواتنا وخيراتنا، بله أن نرى شريعتنا تطبق أو ديننا يُمَكّن.
فمتى يفك المسلمون حبل الرق عن أعناقهم؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب