العلم والثقافة

لا يجرؤ كثير من الذين يدَّعون حريات التعبير والرأي والتفكير أن يتعرضوا بالنقد لمبادئ الديمقراطية، وثقافة “حقوق الإنسان”، والغريب أن هؤلاء أنفسهم هم من يستهدف المقدسات الإسلامية بالنقد بدعوى تفكيك العقل العربي وإعادة تأسيسه على ما وصل إليه الإنسان من تقدم وتطور يستحيل معه قبول ثقافة “الطابوهات” مما يتطلب والحالة هذه استهداف كل شيء بالنقد والتحليل، ومن تم اعتبر أصحاب هذه النحلة القرآن الكريم كلام الله سبحانه “كتابا تاريخيا” قابلا للنقد، كما هو الحال بالنسبة لأي كتاب تاريخي من تأليف البشر، فضُربت كل كتب التفسير المعتمدة في بلاد الإسلام بعرض الحائط، وأعمل أولائك الذين خلعت عليهم ألقاب من قبيل: “الدكتور” و”الأستاذ” و”الباحث” أفهامهم المتحررة من تراث الأجداد، المقيدة بتراث الثورة الفرنسية وما أعقبها من نظريات إلحادية مثل: “حيوانية داروين” و”مادية كارل ماركس وإنجلز” و”شهوانية فرويد” و”همجية مكيافيلي” و..
فخرج علينا “الدكتور” و”الأستاذ” و”الباحث” بعد النقد والبحث بخلاصة مفادها أن قرآننا قد انتهت صلاحيته فلا جدوى من المطالبة بتطبيق ما فيه لأن ذلك أصبح من قبيل الرجعية والظلامية، لأن ما فيه من قصاص وعقوبات كانت تتماشى مع المجتمع الزراعي، ولم تعد تساير المجتمعات الصناعية.
فقالوا: كيف يمكن أن قطع يد السارق فنرفع من نسبة المعاقين؟ ونخسر بذلك يدا عاملة ترفع من معدلات الإنتاج.
فقلنا إذا افترضنا أن مجتمعا تبنى اقتصادا زراعيا أكنتم تسمحون بتطبيق تلك العقوبات فيه؟ قالوا: مستحيل لأن ثقافة “حقوق الإنسان” تمنع من ذلك.
إن ما سبق ذكره يعتبر خلاصة غير مخلة لكل ما نشر وينشر من دراسات حول القرآن الكريم والشريعة الإسلامية، منذ الغزو الفكري لدول العالم الإسلامي والذي سبق سقوط الخلافة بحوالي تسعين سنة إلى يومنا هذا.
ففي نظر كل الماديين من العلمانيين سواء الغربيين أو المستغربين، يوجد مانعان اثنان من تطبيق الشريعة الإسلامية، المانع الأول: العلم، لكن ليس أي علم بل العلم بمفهومهم المادي، والثاني: الثقافة لكن ليس أي ثقافة بل تلك التي تبنى على أساس “حقوق الإنسان”.
والسؤال المتبادر لذهن كل مطلع على هذا الجدل المفتعل هو:
من وضع منهاج هذا العلم وما هي أسسه؟
فنظرية “المادية الجدلية” -مثلا- التي يُحَكّمُها العلمانيون في نصوص الكتاب والسنة ليبطلوها بزعمهم، واضعها هو “كارل ماركس” يهودي من سلالة الحاخامات، أكملها بعد موته اليهودي الثاني “إنجلز” ليتلقفها عنهما بعد ذلك “لينين” و”ستالين” محاولين إخضاعها للتطبيق معتمدين على حيوانية نظرية “داروين” وشهوانية نظرية “فرويد”.
ولكون الشعوب التي أزمعوا إخضاعها لهذه النظريات المادية كانت شعوبا تدين إما بالإسلام أو بالنصرانية فقد حرص البلاشفة على إمعان تجويع الناس وتقتيلهم حتى تصير نظريتهم واقعا ملموسا في أرض القيصر المسيحي “روسيا” وأجزاء كبيرة من أراضي الخلافة العثمانية الإسلامية، وبقوة الحديد والنار مُكِّن لهم.
ومن تم ستنتقل تلك النظرية إلى أغلب بلدان العالم الإسلامي لتشكل أُسَّ معارضة العلمانيين الاشتراكيين والقوميين للحكم فيها والذين ما فتئوا يشككون المسلمين في دينهم ومعتقداتهم، وبعد أفول نجم الاتحاد السوفييتي، سيخلع الماركسيون واللينينيون معاطفهم المادية ليرتدوا معاطف الليبرالية وثقافة “حقوق الإنسان”.
لقد أصبح من المقرر عند كل منصف أن الغرض من ترويج ذلك العلم وتلك الثقافة على التفصيل السابق كان الغرض منه إضعاف الواجب الديني لدى المسلمين والأدلة على ذلك كثيرة وظاهرة من كلام من كان يرسم أو يمارس تطبيق سياسة الاستعمار في البلدان الإسلامية، ولكن العلمانيين كعادتهم يصمون آذنهم عن الحقائق عندما لا تخدم علمانيتهم، وفي هذا الإطار يندرج ما كتبه “جبريال مورا” عن مقاومة الشعب المغربي للتدخل الأوربي حيث دعا إلى إلغاء “القانون القرآني” وفصل المغاربة عن الشريعة الإسلامية, إذا أراد الأوربيون أن يدخلوا للمغرب سلميا ودون مقاومة، بل أشار صراحة إلى قلع الإسلام من المغرب(1)، ويندرج كذلك كل الإجراءات التي اتخذها المستعمرون في مجال التعليم والثقافة خلال مدة جثومهم على صدور المسلمين.
إن هذا الهجوم يتطلب من الباحثين خصوصا المشتغلين في ميدان التاريخ أن ينبشوا أرشيفات الدول المستعمرة التي رفعت عنها السرية ويخضعوها للبحث والدراسة، وأن يعملوا على مقارنة مادتها بمطالب المنظمات الحقوقية الضاغطة على حكومات الدول الإسلامية، لأن كافة المؤشرات تدل على أن الهدف واحد وهو تبعية المسلم وإفقاره والفصل بينه وبين التمسك بدينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) Gabrial Maura. La question marocaine au point de vue Espagnol. Traduit de l espagnol par henri Blan-chard. Challamel. Paris 1911.p.186 et 197.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *