المذهب والخروج عن الجماعة!

يشكل المذهب المالكي ثروة فقهية وعلمية كبيرة، ذات حمولة تشريعية ومنظومة تعليمية لا يستغنى عنها، وهو كفيل بلعب دور مهم في ترسيخ إصلاح شامل إذا سلم توظيفه من آفة التعصب وسلبية الجمود وسلم من تحكم الانتقائية.

.. “التزام المغاربة بالمذهب المالكي ووفاؤهم لأصوله”؛ كان عنوان درس أحمد توفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في سلسلة الدروس الحسنية لهذا العام.
وقد لخص فيه معالم رؤيته لعملية هيكلة الحقل الديني، ونود أن نقف في هذه الافتتاحية مع ما جزم به من التفريق بين مخالفة المذهب في أحكام المعاملات ومخالفته في أحكام العبادات؛ حيث جوز الأول، بل اعتبره أمرا ضروريا، ومنع الثاني، وبالغ حتى عد المخالفة فيه خروجا عن الجماعة.
وبغض النظر عن التساؤل عن مدى موضوعية هذا التفريق وتماشيه مع العلم وأصول المذهب المالكي، وبغض النظر عما في الحكم الذي أضفاه على من خالف أحكام العبادات من مبالغة لا يقرها المذهب المالكي نفسه، نتوجه إلى السيد الوزير بالسؤال التالي:
ما هو حكم مخالفة المذهب فيما شاع بين بعض المغاربة من أفكار وسلوكيات اتفق علماء المذهب على عدها محرمات وموبقات، وأجمعوا على معاقبة أصحابها بالحد أو التعزير؛ كالاستهزاء بالله ورسوله وسنته وشريعته، وكترك الصلاة والزكاة، وكاقتراف الفواحش من زنا وتبرج وشرب للخمر وبيع لها …إلـخ.
الملاحظ أن الوزير في درسه لم يعرج على هذا النوع من المخالفة للمذهب ولم يبين حكمه، وذلك -فيما يبدو- لأنه يصطدم مع مبدأ الحريات العامة كما تقررت في القانون الوضعي ونصت عليها المواثيق الدولية.
ولعل هيبة هذه المرجعية -التي يراد لها أن تكون عالمية ملزمة تحل مكان عالمية الشريعة وإلزاميتها-؛ هي السبب في عدم ظهور مواقف معلنة وصريحة من طرف بعض العلماء من تفشي تلك المخالفات الفكرية والسلوكية، وانتشارها في الصحافة والإعلام وأقوال وأفعال كثير من المواطنين.
وهنا نضطر للتساؤل أيضا:
إذا كان وزير الأوقاف يجد ما يسوغ به سكوته عن تلك المخالفات الصريحة للمذهب والشريعة، وإذا كان يرى أن مراعاة الثقافة الكونية في هذا الباب مقدم على مراعاة أحكام المذهب ومسلمات الشريعة، فما المانع في أن يرى ذلك في مخالفة أحكام المذهب في بعض العبادات، والتي يعني بها مثلا: إرسال اليدين في الصلاة وترك قراءة دعاء الاستفتاح وترك البسملة في أول القراءة، وضرورة الاقتصار على تسليمة واحدة، ونحو ذلك من الأحكام الفقهية التي ثبت الاختلاف فيها في إطار المذهب نفسه، بل إن الاختيار في بعضها كان من باب اختيار الشاذ أو ما هو مخالف للأولى؛ فالقبض مثلا ثبت في موطأ الإمام مالك ما يدل على أنه الهدي الصحيح في الصلاة، ومع ذلك اختار كثير من علماء المذهب الإرسال أخذا برواية في المدونة لابن القاسم عن مالك من فعله ترِد عليها احتمالات معروفة..
فما ذكره الوزير حول إلزامية التمذهب في أحكام العبادات دون غيرها لا يخلو من مبالغة ومفارقة كبيرين، وهو مناف لما قرره علماء المذهب؛ ومنهم العلامة المالكي المحقق أبو إسحاق الشاطبي في مسألة الاختلاف في الفروع، وأنه رحمة وسَعة.
قال في كتابه الاعتصام ج:2/ ص: 121ـ125:
“إن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضير هذا الاختلاف.
قال: “ومع أن الشارع لمّا علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يرجع إليه، وهو قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك رده إليه إذا كان حيا، وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم…
…[وقد جعل] جماعة من السلف الصالح اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة؛ فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة (الجماعة).
وبيان كون اختلاف المذكور رحمة:
ما روي عن القاسم بن محمد؛ قال: “لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل؛ لا يعمل العامل بعلم رجل منهم إلا رأى أنه في سعة”.
.. وروى ابن وهب عن القاسم أيضا؛ قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: “ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم؛ كان في سعة”اهـ.
أما بعد فكم وددنا لو أن الوزير التزم المنهج العلمي الذي يقتضيه هذا الموضوع المهم، والذي لن تتجلى ثمرته الإيجابية إلا بذلك المنهج الذي ينبغي أن يكون موجها للسياسة لا موجها بها..
وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
السبيل ح-ق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *