لا أحد يجادل في أن انتحار الشابة أمينة الفيلالي رحمها الله من أبشع القضايا وأخطرها على الإطلاق، فالانتحار يبقى من أفظع ما يمكن أن يحدث لإنسان في مقتبل العمر؛ ولا أحد يشك أن أمينة الفيلالي ضحية مجتمع مليء بالتناقضات يعيش انفصاما بين هويته الإسلامية المحافظة وقوانينه العلمانية الوضعية، ولا أحد أيضا يماري في كون قضية أمينة الفيلالي ومثيلاتها يجب أن تأخذ حقها ومستحقها من التأمل والدراسة ووضع البرامج والمشاريع والخطط على كافة المستويات لعلاج هذه المعضلة.
لكن العكس هو ما يقع للأسف على أرض الواقع حيث انتدب العلمانيون أنفسهم بكافة أطيافهم ومؤسساتهم، للدفاع عن القاصرات وحقوقهن، متاجرين بقضية أمينة المسكينة رحمها الله وغفر لها، جاعلين حياتها ومماتها أصلا تجاريا يخول لهم إحراز تقدم جديد في مشروع علمنة المغرب، وتغيير ما بقي من أحكام الإسلام في مدونة الأسرة.
فقضية أمينة الفيلالي رحمها الله، تختزل معضلات أربع:
– الاغتصاب.
– الانتحار.
– شيوع الفساد الأخلاقي.
– فساد القوانين الوضعية وقصورها.
وتخفي وراء بشاعتها أسبابا خطيرة وكثيرة ومتنوعة تقف وراء تلك المعضلات الأربع منها:
– تعطيل أحكام الشريعة الإسلامية.
– التناقض بين الهوية الإسلامية المحافظة للمجتمع المغربي والقوانين الوضعية العلمانية التي تنظم شؤون أفراده.
– إفراغ المقررات الدراسية من البعد الديني والاستخفاف بالتربية الإسلامية.
– تهميش الدعاة والعلماء والحيلولة دون ممارسة دورهم الفعال في إحياء منظومة القيم الإسلامية المتعلقة بتصريف الشهوة.
– عدم قدرة القوانين الزجرية الوضعية على الحد من استفحال الجرائم المرتبطة بالجنس.
– الفقر والهشاشة.
– شيوع الفساد الأخلاقي.
– التفكك الأسري.
– الدور القوي للإعلام العلماني في تهييج الغرائز، وتجريء الشباب على الفساد.
كل هذه المعضلات وأسبابها الكثيرة، تغيب في بحر التشغيب والتزييف والتعتيم الذي تقوم به الجمعيات الحقوقية العلمانية والحركات النسوية المتطرفة في الأخذ بكل ما يأتي من الغرب دون ملاءمته مع دين البلاد وأعرافها، والاقتصار كما هو ديدنها على مناقشة الآثار واستثمارها في المزيد من العلمنة، دون البحث في الأسباب الكامنة وراء المعضلة.
فكيف يسوغ أن نغفل عن ظاهرة الزنا وتفشيه بين الشباب رغم أن العديد من القاصرات يلدن من سفاح ويعشن جحيما لا يقل عذابا عما عانته أمينة الفيلالي رحمها الله؟
وكيف يحوِّل الحقوقيون العلمانيون والحركات النسوية المتطرفة النقاش عن معضلة الاغتصاب التي كانت وراء انتحار أمينة، ويتجنبون الخوض في أسبابه بينما يركزون على زواج القاصرات؟
لماذا باختصار لا يركزون على الأسباب الكامنة وراء المعضلات التي تعيشها المرأة سواء كانت قاصرا أم بالغة ويكتفون بمعالجة آثارها؟
الجواب باختصار أيضا في أمرين:
1- لأن بحث الأسباب سيدفع لا محالة إلى الحديث عن أثر الامتثال الأعمى للمواثيق الدولية المتعلقة بالحرية الفردية بمفهومها الغربي، ومن ثمة دراسة حدودها وقيودها ومفهومها وأثرها على الفرد والمجتمع، وتبعا لذلك ستنكشف حقيقة دعاوى الجمعيات الحقوقية العلمانية المتعلقة بحماية الحريات الفردية وحقوق المرأة.
2- لأن التمويل الخارجي الهائل الذي تحظى به هذه الجمعيات مشروط بمدى الطاعة والامتثال والتفاني في الدفاع عن العلمانية وتثبيتها في بنيات المجتمع من خلال النضال المستميت عن الحريات وحقوق الإنسان بمنظورها الغربي وليس الكوني كما يحلو للعلمانيين أن يدعوا.
فلا غرابة إذا أن نرى الحداثيين الذين لم يَسلم حتى كتاب الله من نقدهم الباطل، يأخذون كل ما ينتجه الغرب من قوانين تهم المرأة والطفل والأسرة بالتقليد والتسليم والامتثال دون تعقيب أو نقد، بل يطالبون بإقرار سمو تلك القوانين على كل القوانين الوطنية وكل المعتقدات والتقاليد الاجتماعية سواء كان مستندها العرف أم الدين.
فبدل أن يفتح النقاش من أجل نقد تلك المواثيق الدولية ودراسة أثرها على كافة بنيات المجتمع المغربي المسلم، نرى كل العلمانيين يختزلون الأمر في ضرورة تغيير عقليات المغاربة التي لا تزال تؤمن بمفاهيم مثل عيب وحشومة وحرام، وتلك التي ترى -مثلا- أن فض بكارة المرأة عن طريق الزنا مخل بشرفها، يستحق الشجب والاستنكار.
فهل يا ترى العقليات التي تؤمن بمفاهيم مثل عيب وحشومة وحرام هي التي تقف وراء الاغتصاب؟
أم العقليات التي ترى في ممارسة الزنا خارج إطار الزواج حرية فردية مقدسة؟
وما الأجدر بالتغيير والمحاربة، عقليات تجرم الزنا وتدعو إلى العفة والإحصان، أم عقليات تؤمن بأن الزنا واللواط (الشذوذ الجنسي) والسحاق حريات فردية يجب أن يضمنها القانون؟
لكن الأغرب والأعجب من كل هذا، هو كيف أصبحت قضية المسكينة أمينة الفيلالي حديث الفضائيات، وشغل العالم حتى تحدثت عنها الأمم المتحدة؟
فهل هذه هي أول بنت تنتحر في العالم بعد اغتصابها؟
ولماذا لم تعتن الأمم المتحدة بقضية المجندات اللائي يتعرضن للاغتصاب في الجيش الأمريكي، حيث تشير أرقام وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن أكثر من 19 ألف امرأة ورجل تعرضوا للاعتداء الجنسي من قبل رفاقهم أو قادتهم العسكريين خلال خدمتهم في القوات المسلحة سنة 2010م، كما تشير إلى أن 20% من الإناث و1% من الذكور، من بين القوات الموجودة داخل أمريكا، البالغ عددها نصف مليون جندي، قد تعرضوا لاعتداءات جنسية خلال خدمتهم العسكرية؟
ولماذا لم تطالب الأمم المتحدة الولايات المتحدة الأمريكية بتغيير النظام العسكري الأمريكي، الذي يحتم على الضحايا رفع الشكاوي إلى رؤسائهم المباشرين حتى ولو كانوا هم من قام بالاغتصاب أو بالتحرش بهن، مع العلم أنهم هم من يقرر القيام بالتحقيق أو رفع الشكاوى إلى الجهات المختصة، بغض النظر عن قوة الأدلة؟
وحتى لو انتقدت الأمم المتحدة أمريكا درا للرماد في العيون، فلن يجد انتقادها رواجا في وسائل الإعلام، لأن الإعلام الدولي بيد “لوبياتها” الصهيو-أمريكية (إمبراطورية روبيرت مردوخ نموذجا).
فأين كانت الأمم المتحدة عندما اغتصب الجنود الأمريكيون المتوحشون الآلاف من النساء العراقيات والأفغانيات ومن قبل الصوماليات؟
أين كانت الأمم المتحدة عندما كانت نساء وأطفال فلسطين والعراق وأفغانستان تنسف جماجمهم وتحول أجسادهم إلى أشلاء تحت قنابل الفسفور ومئات الآلاف من أطنان المتفجرات الصهيونية والأمريكية؟
إن الدولة ملزمة بفتح ملفات التمويل الأجنبي للجمعيات الحقوقية وكل الجمعيات العلمانية التي تشتغل في المغرب، وكذا بحث حقيقة العلاقة الرابطة بينها وبين البرامج الحكومية للدول الممولة لتلك الجمعيات، خصوصا أن تلك الدول تعتمد في سياساتها الخارجية على ملف الحريات وحقوق الإنسان كآلية للضغط والمفاوضة مع بلداننا من أجل إحراز المزيد من التبعية والإخضاع.
كما أن المخلصين من نخبنا ملزمون بفتح نقاش وطني حول مدى جدوى تبني المغرب للحريات وحقوق الإنسان بمفهومها الغربي دون نقدها رغم مخالفتها في جوانب مهمة للشريعة الإسلامية ومقومات هوية المغاربة ودينهم، خصوصا في ظل المطالبة بسموها على القوانين الوطنية والأعراف ونصوص الشريعة الإسلامية.
إن العقل الصريح السليم يفرض على نخبنا العلمية والسياسية والثقافية الغيورة والمستقلة أن تقف وقفات تأمل وتعقد مئات الندوات وتفتح مئات الأوراش لدراسة حالة المجتمعات الغربية التي سبقتنا إلى تبني العلمانية ونظمها وفلسفاتها المحددة لنظرتها للكون والإنسان والحياة، ومعرفة ما إذا أحرزت لمواطنيها السعادة أم لا.
فإذا كانت حالة الدول الغربية وما عليها مجتمعاتها من تفكك وانهيار للقيم واستغلال للمرأة والطفل وارتفاع نسب الانتحار ومعدلات الاغتصاب، واندثار مفهوم الأسرة والزواج وشيوع الزنا وأبنائه، وفشو اللواط والسحاق، وانعدام الأمن وانتشار الخوف والجريمة المنظمة وكثير من المعضلات ناتجة عن تبني العلمانية كنظام للحكم والتشريع، فإننا في ظل اقتفائنا لآثارها وامتثالنا لنظمها وقوانينها لن نكون أفضل حالا منها خصوصا مع هشاشة مجتمعنا وتبعيتنا للدول الغربية التي تحول دون تحقيق تنمية اقتصادية فعلية.
فكيف ننتظر أن تصلح القوانين الغربية العلمانية في المغرب ما عجزت عن إصلاحه في دولها الأم؟ إن هذا لهو الهراء والضلال المبين.
نعم، إن الفصل 475 من القانون الجنائي يجب أن يتم تعديله لأنه أولا يخالف الشريعة الإسلامية والعقل والفطرة وكل أعراف وتقاليد المغاربة المسلمين، وليس لأنه يتعلق بزواج القاصر، مثله في ذلك مثل باقي النظم التي ورثها المغاربة عن المحتل الفرنسي العلماني، كقوانين الربا والقمار وبيع الخمور وكل ما يخالف ديننا وهويتنا كمغاربة مسلمين.
إن المغاربة يعون جيدا أن العلمانيين كاذبون في تباكيهم على حقوق القاصرات، مراوغون في افتعال الضجة حول قضية أمينة الفيلالي، فما يهمهم هو الوصول إلى الفصلين 20 و21 من مدونة الأسرة المتعلقين بزواج القاصر، استكمالا لفرض رؤيتهم العلمانية على نظام الزواج الإسلامي.
فكفى من المتاجرة ببناتنا وبآلامهن مقابل دولارات الدول المانحة؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل