في سنة 1925م ألقى العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي رحمه الله محاضرة بمعهد الدروس العليا بالرباط دعا فيها إلى تعليم الفتيات، حضرها علماء مغاربة وفرنسيون، فقام بمعارضته شخصيات بارزة آنذاك على رأسها الصدر الأعظم المقري ووزير العدلية (العدل) أبو شعيب الدكالي رحمه الله الأمر الذي اضطره إلى قطع محاضرته وعدم إتمامها.
لا نشك أن الذين اعترضوا على مطلب العلامة الحجوي بنوا موقفهم على أمور موضوعية منها أن دعوته هاته تزامنت مع مخططات الاحتلال التي كانت تستهدف المرأة من خلال مطلب التعليم نفسه كذريعة إلى تغريب المجتمع المغربي، بحيث كانت ترى أن خروج المرأة إلى الحياة العامة يسهل عملية تفتيت البنيات الاجتماعية وخلخلتها لتسهيل عمليات التغريب وتغيير القناعات ذات المرجعية الإسلامية، خصوصا إذا علمنا أن البنيات التحتية في مجال التعليم كانت تحت يد المحتل، وأن من سيشرف على تعليم البنات هم الفرنسيون، كما أن المعترضين كانوا متابعين لما حدث في الدول الإسلامية التي خاضت التجربة تحت حكم الاحتلالات الأوربية العلمانية والتي تخللتها مفاسد عظيمة كانت تعتبر آنذاك من الدواهي المدمرة وكذلك كان.
كما لا نشك أيضا أن العلامة الحجوي كان يرى في تعليم البنات مطلبا شرعيا دينيا بدليل ما قاله في محاضرة بعنوان: “تعليم البنات لا سفور المرأة” والتي ألقاها لاحقا بعد منعه من إتمام المحاضرة الأولى: “..إني أعلم أن الذين أنكروا علي الحث على تعليم البنات لهم قصد حسن، وغيرة حملتهم على ذلك، وقصدهم هو سد الذريعة، خوف الوقوع في العار، وفي مفاسد ربما تنشأ عن تعلمهن، لكنني أقول لهم: إن هذا رأي متطرف عن الشريعة الإسلامية في منع النساء من العلم، وأحقق لكم أنه لا مفسدة إذا عُلِّمن التعليم الذي أريده على الكيفية التي أوضحتها، وإنما المفسدة في تعليمهن تعليما إفرنجيا، ..المفاسد التي نشأت في هذه الأزمان للأمم الإسلامية من تعليم المرأة، فإنما هي من فساد التربية حيث أعطوها الحرية المذمومة، وهي لا تتقيد بآداب ولا دين فأفسدوها وعلموها تعليما إفرنجيا، فالذنب على من علمها فلم يحسن تعليما، ولم يجعله داخل دائرة الشرع الشريف، والأدب التهذيبي اللطيف”.
هذا المشهد التاريخي ينطوي على دلالات عميقة نستشف من خلالها وضع المغرب قبل أقل من تسعين سنة حيث المرأة لا زالت لم تغادر بيتها بعد، يعني أن الحجاب الشرعي هو الذي كان يهيمن على لباس المرأة و الذي كان يتمثل في الحايك المغربي، كما يدل هذا المعطى التاريخي على أن كل هذه المظاهر السيئة من تبرج واختلاط ماجن وشواطئ العري وهذه الجيوش من النساء ضحايا العلمنة، اللائي يطلق عليهن العلمانيون اسم الأمهات العازبات، وتلك الجيوش الأخرى من أطفال الزنا الذين يسميهم العلمانيون الأطفال الطبيعيين، وكل هذه الآفات الاجتماعية المتعلقة بالمرأة كعملها في الحانات واستغلالها في المقاهي والنوادي الليلية، وكل مظاهر الفساد التي تهيمن على الثانويات والجامعات لم يكن لها وجود قبل تسعين سنة.
كما نستشف من هذا المعطى أن العلماء (الحجوي الثعالبي-أبو شعيب الدكالي) كانوا وزراء ورجال دولة، ما يعني أن العلماء هم من كان يسوس أمور الدولة، قبل أن يختزل دورهم في المسجد والوعظ والإرشاد، وأن العلم الشرعي كان حاضرا في الإدارة والسياسة، قبل أن تحكم عليه العلمانية بالسجن وراء جدران المساجد، وأن هذا الفصل بين الدين والسياسة هو حادث في المغرب وافد مع الاحتلال العلماني الفرنسي.
ولنترك الحجوي الثعالبي وأبي شعيب الدكالي في سجالهما، ولنقفز إلى واقعنا اليوم، لندرك مدى السرعة التي تم بها تفكيك كل شيء يمت إلى الإسلام وشريعته بصلة، وذلك من خلال الوقوف على مشهد بليغ يختزل عقودا عشرة من العلمنة الممنهجة، المشهد يتلخص في ردود فعل القائمين على بعض وسائل الإعلام على ارتداء شرطيات للحجاب خلال مزاولة مهنتهن، منددين ومستنكرين لهذا الفعل، فالصباح علقت على الصورة بالآتي: “فوجئ ضيوف الدورة التاسعة عشرة لمهرجان سينما البحر الأبيض المتوسط بتطوان، التي انطلقت أول أمس (السبت)، بوجود شرطيات يرتدين الحجاب، وفي سابقة في أسلاك الأمن الوطني، إذ يمنع إطلاق اللحى أو مزاولة العمل بزي يحمل طابعا دينيا…” الصباح العدد 4025.
أما أسبوعية المشعل فرفعت الإيقاع وأخرجت الغول السلفي الذي تخلت أمريكا عن توظيفه في إرهاب حكوماتنا بعد الحراك العربي لتعلن مرة واحدة أن: السلفية تغزو الأمن الوطني. معلقة تحت هذا العنوان بهذه التساؤلات:
“هل هي صدفة أم إشارة أرسلت لمن يهمهم الأمر. فالصورة التي ظهرت عليها بعض عناصر الشرطة النسوية خلال الدورة 19 لمهرجان السينما ببلدان البحر الأبيض المتوسط بتطوان، تستدعي وقفة طويلة للتأمل والتحليل وطرح الأسئلة، من قبيل: هل لحكومة بنكيران علاقة بالموضوع؟
وهل سيطر أتباع الحكومة الملتحية على زمام الأمور داخل أسلاك الأمن الوطني لدرجة أن الحجاب أصبح لباسا رسميا للشرطيات؟
وأين ذهبت تلك المقررات الأمنية الكثيرة التي كانت تتداول داخل المؤسسة الأمنية والتي تمنع على المنتسبين إلى هذا الجهاز من الجنسين إعفاء اللحى أو مزاولة العمل بزي يحمل طابعا دينيا؟
أم أن توغل الخطاب المتخفي لأقطاب الحزب الحاكم طال حتى أجهزة السيادة داخل الدولة؟
وهنا تكمن الخطورة؛ إذ أن المغاربة سيستيقظون ذات صباح ليجدوا حشدا من أصحاب اللحى ومرتديات البرقع يحتلون إدارات الأمن يقودون انقلابا أخضر على مؤسسات الدولة..” المشعل؛ ع:365.
احتلال.. وانقلاب أخضر.. لمجرد ارتداء شرطيات لمناديل تغطي شعر الرأس.
أين غاب الحايك المغربي؟
أين حفدة أولئك العلماء الذين اختلفوا حول تعليم البنات قبل أقل من تسعين سنة فقط؟
كيف انقلب المغرب من بلد محافظ، بلد مالكي لا يبيح علماؤه الاختلاط ويمنعون من أي التقاء غير منضبط بضوابط الشريعة بين الرجل والمرأة إلى بلد حداثي/مستغرب تعرض لحوم بناته أكواما على الرصيف في أبواب الثانويات وفي ساحات الجامعات كقطع غيار متلاشية؟
كيف أصبح يستنكر على المغربيات أن يلبسن الحجاب الشرعي ويمنعن منه في المرافق العمومية، بينما العري الفاحش يحتفى به في المسابح والشواطئ والنوادي الليلة والشوارع بل في باحات المساجد (تصوير فيديو كليب مغنية لبنانية بباحة مسجد الحسن الثاني، التقاط صور استعراضية للمشاركات في مسابقة ملكة جمال بلجيكا بباحة المسجد نفسه).
فحملات التغريب والعلمنة التي عاشتها المرأة المغربية خلال تسعة عقود، والانتهاك المستمر لأعراض النساء المغربيات داخل البلاد وخارجه، وجو الذل والمهانة والاستضعاف الذي تعيش فيه المتمسكات بدينهن، بالإضافة إلى هذا التهميش البالغ لدور العلماء في حراسة الفضيلة، كلها عوامل يمكن أن تفسر لنا هذا التردي الأخلاقي الفظيع الذي جرأ زوجة مدير المركز السينمائي المغربي نور الدين الصايل على أن تقول على صفحات الجرائد وبالخط العريض والفم الممتلئ: “أنصح جميع النساء بإقامة علاقات قبل الزواج”أخبار اليوم العدد 1017. فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل