تبدأ الإجابة من التأمل في مفهوم كل من “العلمانية” و”الفتوى” حتى نستشف حقيقة وخلفيات الحرب التي يخوضها العلمانيون اليوم على الفتوى، فالعلمانية كما عرفتها دائرة المعارف البريطانية في مادة (Secularism): “هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت العَلمانية تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة.
وظل الاتجاه إلى العلمانية يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية”.انتهى تعريف دائرة المعارف البريطانية.
أما الفتوى فهي: “الإخبار بحكم الله تعالى في مسألة دينية، بمقتضى الأدلة الشرعية لمن سأل عنه في أمر نازل”.
من خلال التعريفين يبدو التناقض جليا بين العلمانية والفتوى، فإذا كانت العلمانية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا، فإن الفتوى من حيث هي إخبار عن حكم الله فإنها تعتبر واسطة بين الإنسان وخالقه، من خلالها يعرف إرادة الله سبحانه من خلقه وبواسطتها يعرف حكمه في كل النوازل التي تعرض له، قال القرافي رحمه الله تعالى: “مثال الحاكم والمفتي مع الله تعالى -ولله المثل الأعلى- مثال قاضي القضاة يولّي شخصين، أحدهما نائبه في الحكم، والآخر ترجمان بينه وبين الأعاجم. فالترجمان يجب عليه اتباع تلك الحروف والكلمات الصادرة عن الحاكم، ويخبر بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص. فهذا هو المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص”. الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام.
وهذا لا علاقة له بالدولة التيوقراطية التي كانت في أوربا وحاربتها العلمانية، لأن الكنيسة لم تكن تحكم بشريعة الله وتتبع وحيه بل كانت تتبع أهواء القساوسة والرهبان حتى وصل بهم الأمر إلى تحرير صكوك الغفران.
أما المفتي في الإسلام فهو مطالب باتباع الأدلة الشرعية والبعد عن الخضوع لأهواء نفسه أو غيره من ذوي الجاه والسلطة، قال الشيخ عبد الله كنون رحمه الله تعالى: (نحن اليوم لا نستطيع أن نقدر الدور الذي كان يقوم به الفقيه في المجتمع الإسلامي الذي يخضع لأحكام الشرع في جميع الشؤون؛ لبعدنا عن الحياة الدينية الصحيحة؛ ولكن يكفي لتصوره في الجملة أن نتذكر ما كان للناس من تشبث عظيم بتعاليم الدين؛ وحرص شديد على عدم مخالفتهما في الصغير والكبير من أعمالهم فهم يلجؤون دائما إلى العلماء يستفتونهم؛ وإذا اختلفوا فإنهم يعتمدون من ثبت لديهم ورعه ونزاهته وعدم مجاراة الحكام في أهوائهم؛ إنه لم يكن هناك إفتاء رسمي ولا خطة حكومية له؛ فالدولة نفسها تستفتي العلماء وكثيرا ما يعارضون أغراضها ولا يوافقون عليها، وذلك هو الذي يرفع مقامهم عند العامة ويجعلهم بمثابة الزعماء السياسيين الذين ينتقدون الحكومة في أنظمة الحكم العصرية؛ ويعارضون سياستها وربما أسقطوها، فمن هذا نعرف مهمة المفتي وخطورتها بالنسبة للفرد والجماعة في الوطن الإسلامي). (ذكريات مشاهير علماء المغرب في العلم والأدب والسياسة 1/199-200؛ للعلامة عبد الله كنون).
فالعلمانيون المغاربة يعلمون جيدا خطورة الفتوى عليهم وعلى دينهم الجديد المسمى “العلمانية” ويعلمون أهميتها في الإبقاء على الإسلام وأحكامه مؤطرة وموجهة لسلوك الأفراد والجماعات، كما يدركون جيدا أن بقاء الفتوى واستمرارها يشكل حائلا قويا ومانع عتيدا دون هيمنة العلمانية في المجتمعات الإسلامية ولو صيغت مبادئها في شكل نصوص قانونية، لهذا يقفون منها موقف المعادي المحارب ويعملون من خلال منظماتهم وجمعياتهم وأحزابهم على إسكات كل من يفتي الناس في أمور دينهم.
ولنا أن نتأمل كم من جمعية ذات مرجعية علمانية تنشط في المجتمع المغربي في مختلف الميادين؟
وكم من حزب علماني ينظم الناس ويؤطرهم وفق مشروع علماني يفصل بين الدين وتنظيم الدولة على مستوى السياسة، وبين شريعة الإسلام وسنِّ القانون على مستوى التشريع؟
ولنا أن نتأمل كذلك كم من الجمعيات والمراكز أنشئت لتطبيق المشاريع العلمانية على أرض الواقع في المغرب؟
ومع كل هذه المجهودات الجبارة في صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا فقط؛ ما زال الناس يسألون عن أحكام الشريعة ويفتشون عن مراد الله منهم ومن خلقهم.
من خلال ما سبق يتضح أن السجال الذي عرفته الساحة الصحفية حول الفتاوى التي نشرتها يومية التجديد ليس سجالا معرفيا نتج عن اختلاف في الفكر والتوجه، بل هو معركة من معارك صراع وجودي بين الإسلام والعلمانية، حاولت خلاله وسائل الإعلام العلمانية بكل قوتها، أن تضغط على الدولة لمنع كل شكل من أشكال الفتاوى لكونه يتعارض مع دولة الحق والقانون على حد زعم رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
فإذا كان العلمانيون يصدرون في مواقفهم وقناعاتهم عن المرجعية الغربية التي يطلقون عليها زورا نعت الكونية، كحرية العقيدة والفصل بين السياسي والديني في الدستور وسمو المواثيق الدولية لحقوق الإنسان على التشريع المحلي وإلغاء عقوبة الإعدام ومساواة الرجال والنساء في الإرث وفي كل الحقوق وغيرها، فإن المؤمن بالله ربا لا يسعه إلا امتثال قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. والفتوى من صميم الدين وواجب أوجبه الله تعالى على العلماء لقول الله سبحانه تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} آل عمران.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل