الصراع بين المحافظين و(غير المحافظين)! عموما هو صراع قديم جديد؛ صراع لا يتقيد بحدود جغرافية؛ ولا بفوارق زمنية؛ صراع يشتد ويحتدم في بيئات مختلفة ومجتمعات شتى وعقائد متباينة؛ إلا أن صراع المرجعية وتعطيل الإسلام شريعة ومنهجا وحصره في سلوك فردي طقوسي؛ والاستعاضة عنه بأيديولوجيات متباينة وفلسفات بائدة؛ هو صراع لم يعرفه المغرب ولا باقي العالم الإسلامي برمته إلا بعد أن عصف الغزو الفكري الغربي بحياة المسلمين مدعوما بمدافع ودبابات المحتل الأوروبي؛ وذلك بعد أن خفت نور الإيمان وانتشر الشرك؛ وأصبح الدين لدى العديد مجرد عادات وتقاليد؛ فنحيت الشريعة عن معظم قوانيننا وحياتنا اليومية؛ ولم تبق إلا في بعض السلوكات الفردية والعادات الاجتماعية التي فرضت استمرارها في جزء من القوانين المنظمة للأسرة فقط.
وأخطر من هذا كله هو زرع فكر علماني لاديني داخل بيئتنا ومجتمعنا؛ يجهر ويتبجح أصحابُه برفض الشريعة وضرورة إبعاد الدين عن السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وغيرها من مجالات الحياة؛ -وطبعا- لا أحد إطلاقا من حقه أن يزايد على إسلام هذا الفصيل وصدق انتمائه للوطن وحرصه على مصلحة أبنائه!
إنه صراع يتجدد ويحتدم ويشتد مع مرور الأيام وتوالي السنين؛ إنه صراع بين المحافظين؛ المتشبثين بهويتهم والمتمسكين بدينهم (عقيدة وشريعة)؛ وبمنظومة حكمهم وقيمهم؛ وبين (غير المحافظين) أتباع التيار العلماني الحادث؛ الذين لهم رؤية مختلفة تماما للإنسان والكون والحياة عما هو عند عموم المسلمين.
فبعد الهزات العنيفة والأحداث الكبيرة التي عرفها العالم العربي؛ وسقوط بعض قلاع الديكتاتوريات العتيدة؛ وصعود الإسلاميين وتقلدهم زمام السلطة في بعض البلاد؛ انكشفت للناس حقيقة الأحزاب والمنظمات ذات المرجعية العلمانية؛ وهي بالمناسبة تستنكف من وصفها بهذه الصفة؛ لأن الوصف بالعلمانية لا زال قدحيا في العالم العربي والإسلامي؛ وقد نبه الراحل محمد عابد الجابري حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان ينتمي إليه وعموم العلمانيين إلى خطورة استعمال هذا المصطلح؛ وأرشدهم إلى الاستعاضة عنه بالديمقراطية؛ لأنه مصطلح مقبول نوعا ما في العالم العربي والإسلامي.
لقد باتت هذه الأحزاب التي خرجت من السلطة خاسئة بعد أن لفظها الشعب ورماها عموم الناس عن قوس واحدة تتخبط خبط عشواء؛ وأخذت تتلمس في الظلام مخرجا من هذا التيه؛ فمنها من تراجع إلى الخلف وتوارى في الظلام عسى العاصفة تمر بسلام؛ ومنها من عمل على لملمة صفوفه وإعادة ترتيب أوراقه؛ عساها ترى نورا يرشدها إلى المخرج؛ ومنها من عاد إلى أصله ورجع إلى العنف الثوري؛ وإلى تبني العمل المسلح من جديد؛ حيث هددت منظمة سرية يسارية راديكالية في تونس تحمل اسم “الألوية الحمراء” في بيانها التأسيسي بتنفيذ اغتيالات وعمليات تصفية لأهداف تم تحديدها.
أما عندنا في المغرب؛ فقد عمد على سبيل المثال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي ظل في السلطة لولايتين إلى إعادة ترتيب بيته الداخلي بتغيير قيادته عن طريق انتخابات شابتها خروقات كثيرة؛ قال عنها المرشح الأسبق لشغل منصب الكاتب الأول للحزب أحمد الزايدي في حوار مع مجلة “ماروك إيبدو”، (هناك مؤشرات تبينُ عن فقدان حزب الوردة شيئا فشيئا منذُ انتخاب القيادة الجديدة لمرجعياته، ..لقد لاحظنا تلك الاختلالات ابتداءً من المؤتمر التاسع لحزب الاتحاد الاشتراكي، وعدد من الانتهاكات، على صعيد التنظيم كما النتائج)اهـ.
أما الفائز بمنصب الكاتب الأول للحزب الأستاذ إدريس لشكر؛ فبمجرد اعتلائه هذا المنصب كان الجميع -وحتى بعض المنتسبين إلى الحزب- يظنون أنه سيقدم برنامجا حزبيا متكاملا يجلي من خلاله رؤيته للإصلاح والنهوض الاقتصادي والتنموي وتقديم حلول عملية للعديد من المشاكل العالقة؛ فإذا بالأستاذ ادريس يضع خارطة طريق واضحة المعالم؛ أعلن عنها غير ما مرة؛ تتمثل في (ضرورة فتح جبهة ثقافية ضد التيار المحافظ من خلال إشراك كل المثقفين والشباب والنساء وجميع الهيئات التي تشترك مع الاتحاد في ذات المرجعية)؛ و(تحيين المشروع الاشتراكي الديمقراطي، ثم الإصلاح الدستوري وفق التصور العقلاني التنويري وليس الإسلامي الظلامي الذي يعيد طقوس السلف الصالح ). (برنامج “مباشرة معكم/القناة الثانية)، وصرح أيضا أمام سفراء الدول العربية والأجنبية في المغرب مؤخرا بقوله: (نخشى على مسيرة الإصلاح من القوى المحافظة). (الاتحاد الاشتراكي 18/02/2013).
فابن الخلية الأولى للتنظيم في الإتحاد الاشتراكي -كما يدعي لشجر- الذي أصبح بمرور الأيام هو الآخر مليونير الطبقة العاملة؛ يجب عليه ابتداء أن يخجل ويعيد النظر في اسم الحزب الذي يرأسه وخلفيته الأيديولوجية؛ فبعد تهاوي الاشتراكية في معقلها؛ وسقوط الاشتراكية في جل البلدان التي تأثرت بالمد الأحمر؛ تحول الاشتراكيون -سبحان الله- بين عشية وضحاها!! إلى دعاة للرأسمالية والديمقراطية والتعددية؛ بعدما كانوا بالأمس القريب دعاة للحزب الواحد وأعداء للطبقية والبورجوازية، ومعظم هذه الأحزاب -ومنها الاتحاد الاشتراكي- لم تتخل عن اسمها القديم؛ ولا زال بعض متزعميها يكررون أسطوانة اليسار المشروخة ومصطلحاتهم المعروفة.
ويبدو أن الأيام التي قضاها لشجر في الوزارة؛ بعد التعديل الحكومي؛ ونعم فيها بالمركب الهنيء المريح؛ والمسكن الواسع والفسيح؛ جعلته يظن أن اليساريين عموما والاتحاديين خصوصا قد أوقفوا الحرب يوما ضد المحافظين ومن يصفونهم بالظلاميين والعدميين والرجعيين؛ فقام لشجر فيهم واعظا ولعواطفهم محركا بضرورة محاربة المحافظين الذين يقحمون الدين في السياسة، والإسلام الظلامي الذي يعيد طقوس السلف الصالح!!
وحتى يجدد الكاتب الأول للحزب الاشتراكي معلوماته ويحينها؛ ويطلع على جانب من الصراع بين المحافظين وغير المحافظين؛ فما عليه إلا أن يتجه صوب مقر جريدة الاتحاد الاشتراكي بالعاصمة الاقتصادية؛ فيدخل طابقها الأرضي؛ وهناك سيجد رجلا تنبعث منه رائحة التاريخ الماركسي مكلف بأرشفة الجريدة؛ سيمكنه لا محالة من الاطلاع على ما نشرته الجريدة إبان فترة ولايته؛ وحينها سيتضح له من خلال المقالات والتحقيقات؛ والأنشطة والمؤتمرات؛ أن رفاقه في اليسار لم يألوا جهدا في محاربة ومحاصرة المحافظين؛ ومنه يمكنه أيضا أن يلقي نظرة على ما كانت تنشره جريدة الاتحاد الاشتراكي أيام المعارضة وجريدة المحرر قبلها؛ وسيدرك ساعتها الردة الفكرية والانقلاب الأيديولوجي للحزب الاشتراكي العتيد، وسيحكم بنفسه آنذاك على درجة التحول الكبير الذي طرأ على الحزب الاشتراكي بين الأمس واليوم.
ولا زلنا نتمنى من يعلن العداء السلف وخاصة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي الأستاذ إدريس لشكر أن يكون على الأقل وفيا لمبادئه منسجما مع قناعاته؛ ويكف عن اللعب على الحبلين؛ تارة اشتراكيا وتارة ديمقراطيا وتارة ليبراليا؛ ومن يدري قد يصير غدا صوفيا طرقيا.