بين حرق القرآن والرسوم العدوانية (الحاجة إلى ترشيد هيكلة الحقل الديني) حمّاد القباج

انشغل المسلمون بالتمثيلية الدرامية (وربما الكوميدية) التي أتقن فصولها القس (تيري جونس)، بينما غفل الكثير منهم عن الموقف المشين للمستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل):

فإنه في الوقت الذي كان القس ينتشي كأس الشهرة بأداء دوره في التمثيلية المستفزة؛ كانت المستشارة المذكورة تُكَرّم رسام الكاريكاتير (كيرت فيسترغارد) الذي تولى -عام 2005- كِبر تلك الرسوم التي ستجعل مصيره إن شاء الله كمصير الذي قال الله تعالى فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} [المسد/1-3] .
فقد منحته (ميركل) يوم الأربعاء 8 شتنبر بمدينة (بوتسدام) الألمانية جائزة إعلامية تكريما وتشجيعا له على ما تحلى به من شجاعة وممارسة لحرية التعبير! وكأن العالم أمسى فارغا من إعلامي تمنح له هذه الجائزة إلا من هذا الشانئ الأبتر!!
وقد اتصفت (ميركل) -رئيسة الحزب النصراني الديمقراطي- بالنفاق السياسي حين أدخلت هذه الممارسات الحاقدة في خانة حرية التعبير؛ مع أنها لا تتعامل المعاملة نفسها حين يتعلق الأمر بالنصرانية؛ والدليل أنها وقفت ضد المتهجمين على الكنيسة وحاولت منعهم من التعرض لمساوئ النصرانية مسوغة ذلك بقولها : “النصرانية هي القاعدة الأساسية لمنظومة القيم في ألمانيا”.
إن حرق المصحف لا يعد إهانة في حد ذاته؛ بل حكمه حكم القصد من إحراقه، فقد يكون مباحا؛ كإحراق المصحف البالي مثلا، وقديما أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بحرق كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به إلى الأمصار، ولم ينكر ذلك عليه أحد، بل قال علي رضي الله عنه: “لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا”.
والإحراق الذي هدد به القس النكرة وإن كان القصد منه هو الإهانة، فإنه لا يضر القرآن شيئا:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد/32]
ومع ذلك يمكن أن تكون هذه التمثيلية سببا لتعرف كثيرين على القرآن ورسالته العظيمة، وهذه خدمة إعلامية قد تعوض شيئا من تقصيرنا في تعريف الآخر بديننا، لا سيما حين أكد القس بأنه لم يقرأ المصحف ولا يعرف ما فيه، بل إنه قال بأن تراجعه النهائي عن فعله إنما ينبع من شعور برسالة ربانية !!
وبناء على هذا؛ فإن ما قامت به المستشارة الألمانية هو أقبح وأضر بسمعة الإسلام مما قام به ذاك الممثل، فموقفها يحمل رسالة إلى حاملي العداء المتنامي ضد الإسلام؛ مفادها: استمروا في حملاتكم العدائية فإننا نفخر بكم وسنؤدي لكم الشكر اللازم ونوفر لكم الحماية الكاملة.
إن فعلها مع فعل القس ما هما إلا حلقتان في سلسلة تنامي العداء ضد الإسلام، التي لم يكن أولها تلك الرسوم السخيفة، ولم يكن آخرها حظر النقاب، ويبقى من أخطرها: السعي لتحريف معاني القرآن بدعم المناهج المحرفة في فهمه ومحاربة المنهاج الصحيح الذي بلوره السلف الصالح وسار عليه أئمة الإسلام المجمع على فضلهم وإمامتهم ..
ويمكن أن نقول: هي حرب على شريعة الإسلام لكونها العقبة الوحيدة في وجه الإباحية التي يسعى الصهاينة لفرضها على البشرية؛ فيوهمون بأن الشريعة ظالمة ورجعية وعدوانية، ويجندون لإبراز هذه الصورة الإعلام والسياسة والاقتصاد، كما يجندون المستغربين العلمانيين لتحريفها والحيلولة دون تطبيقها ..
وهذه الحملة المدروسة تضطرنا –كمغاربة- لمراجعة سياستنا في هيكلة الحقل الديني، والوقوف على حجم الدعوة الإسلامية في هذه الهيكلة، الشيء الذي يدفعنا للتساؤل:
ما هي جهود الوزارة الوصية للتعريف بالإسلام وكشف الشبهات المثارة حوله على المستوى الإعلامي والثقافي والديبلوماسي؛ أين هي قنواتنا -أو على الأقل إذاعاتنا- التي تبث بلغات العالم؟ أين هي الملحقات الدعوية في سفاراتنا في كافة البلدان غير المسلمة؟ أين هي مؤلفات علمائنا بمختلف اللغات التي تشرح دعوة الإسلام إلى التوحيد والعدل والحق، وتبرز عظمة الشريعة وسموها وسلامتها من النقائص المنسوبة إليها؟
أين مشاريع نشر كتب المنصفين من الغربيين الذين شهدوا بما علموا من الحق عن عظمة الإسلام وعدالة شريعته؟
ومن جهة أخرى نتساءل:
هل كنا مصيبين حين عملنا على إماتة عقيدة البراء من الكافر، وتوسعنا في نشر ثقافة التسامح حتى مع الذين يجاهرون بمعاداتنا ومعاداة ديننا؟!
إن نشر قيم التسامح والتعارف بين شعوب العالم رسالة قرآنية، لكن عقيدة الولاء والبراء أيضا عقيدة شرعية تتأسس على نصوص قرآنية وحديثية كثيرة؛ وكما نقرأ في القرآن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات/13] ، فإننا نقرأ أيضا قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة/1]
وليت شعري كيف ننتصر على اليهود ونتخلص من أغلال الظلم التي أحاطوا بها رقابنا إذا كان إعلامهم وتعليمهم ينمي الكراهية ضدنا بالزور والباطل، في الوقت الذي نستجديهم برسم صورة مسلم ويهودي ونصراني جنبا إلى جنب على غلاف مقرر التربية الإسلامية، لنوهم نشأنا بمحبة خيالية، وسلام هو في الحقيقة استسلام وخضوع وذل وخنوع.
وكانت الأمانة العلمية تستلزم أن نشير -على الأقل- إلى التمييز بين المحارب والمسالم، وبين الولاء القلبي والمعاملة الحسنة؛ كما علمنا القرآن: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة/8، 9]
إن واجب الدين والانتماء وما عرف به المغرب عبر التاريخ من مواقف مشرفة في الدفاع عن الإسلام؛ يحتم علينا وضع خطة دعوية عالمية تشرف عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء بالتنسيق مع وزارة الخارجية للتعريف بالشريعة كما هي، ومواجهة حملات التشويه المولدة للكراهية والعنف والعنف المضاد ..
والسبيل لمواجهة الإرهاب ليس هو إغلاق دور القرآن السلفية، ومحاولة الإيهام بأن التصوف من الثوابت الدينية، وليس هو الاقتصار على إيجاد خطاب للجالية المغربية يحصنها من التطرف؛ بل يبدأ الطريق بمعالجة الأسباب المولدة لفكر الإرهاب؛ والواعظ مهما اجتهد في ترهيب الناس من التطرف لن يحقق المأمول ما دام المتلقي يرى الحملات العدائية تتصاعد ضد دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم ..
هذه الحملات العدائية التي يحاول (أوباما) إخفاءها بقوله: “نحن لا نحارب الإسلام بل نحارب الإرهاب”، مع أن الممارسات تكذب مزاعمه:
فهل كان كل الملايين الذين قتلوا في العراق إرهابيون؟ وهل كان كل المعذبين في سجن “أبو غريب” إرهابيون؟ وهل كان آلاف المدنيين الذين قتلوا ويقتلون في أفغانستان وباكستان إرهابيون؟
هل كانت كل دور القرآن والجمعيات الخيرية التي جمّدت أنشطتها في اليمن ومصر والمغرب وباكستان إرهابية؟
إن الحرب الغربية التي دشنها (بوش) هي فعلا حرب صليبية، والمستهدف هو الإسلام الصحيح الخالي من التحريف والتمييع، المتشبث بالأصول السليمة للدين الإسلامي.
فلنحارب هذا الإسلام ولا يضرنا بعد ذلك تدَيُّن المسلمين بإسلام مُسَيّس أو مميَّع أو محرَّف ..
وفي ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نفهم مقاصد تقرير مركز (راند) الصادر عام (2007) الذي أوصى بتشجيع الإسلام الصوفي، ثم التقرير الأمريكي الصادر هذا العام عن معهد (بروكنجز) الذي أوصى بتشجيع الحركات الإسلامية التي رضيت بالدخول في اللعبة السياسية ..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *