عندما تعجز الدولة عن توفير الأمن..

جريمة ذبح أستاذ الرياضيات من طرف تلميذه بالثانوية الإعدادية الكتبية بحي سيدي موسى بسلا من أبشع الجرائم التي بدأت تتزايد في السنوات الأخيرة بمغربنا الحبيب، وإن كان أبشع منها جرائم القتل التي يرتكبها ضحايا القرقوبي والمخدرات ضد آبائهم أو أمهاتهم؛ لكن تبقى جريمة ذبح الأستاذ المذكورة ذات دلالات عميقة:
– فالفاعل تلميذ لم يتجاوز 17 من عمره.
– والضحية أستاذه ناهز الستين من عمره إلا أشهرا قليلة.
– ومسرح الجريمة قاعة التدريس.
– والشهود عشرات التلاميذ.
– وأداة الجريمة سكين من الحجم الكبير.
فعناصر الجريمة مجتمعة تعبر ببلاغة واضحة عن شتى أنواع الخلل، التي اعترت مختلف مناحي حياتنا الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والقانونية والتربوية والأسرية..، كما تدل دلالة واضحة على أن درجة الخطورة بلغت مستويات تنذر بقرب حصول كارثة اجتماعية حقيقية، تستدعي إعلان “حالة الطوارئ القصوى”، وتفرض بقوة اجتماع كل الفعاليات والمؤسسات الرسمية والأهلية للمشاركة في وضع برامج وخطط إصلاحية شجاعة مندمجة، تراعي مصلحة البلاد والعباد، ولا ترعبها الجهات الخبيثة التي تستفيد من واقع استفحال الجريمة وتتخذها مصدرا لتكديس الثروات.
خصوصا أنه لن يؤثر على اقتصادنا الهش رصد الميزانيات الكفيلة بتطبيق تلك البرامج والخطط، مادامت الجرائم في بلادنا تعتبر من أهم العوامل التي تستنزف الميزانيات الخاصة لكثير من الوزارات والمديريات كإدارة السجون ومصالح الأمن والدرك ووزارة العدل والداخلية والصحة وغيرها من الإدارات العمومية.
لكن رغم ذلك، تبقى الإرادة السياسية للإصلاح هي الأساس في وضع أي خطة لمكافحة الجريمة، إذ تستحيل معالجة معضلة الجريمة مع الإبقاء على دعائم الفساد قائمة، وترك المفسدين يعيثون في البلاد تخريبا وتدميرا.
فحل معضلة الإجرام مرتبط بإصلاح جهازي القضاء والأمن، وإصلاح التعليم والإعلام، ومحاربة الهشاشة والفقر، وإعادة النظر في المبادئ العامة المؤطرة للاقتصاد الوطني، والمستمدة من النظم العلمانية؛ خصوصا الرأسمالية المتوحشة والليبرالية المتطرفة التي أثرت بشكل فظيع على الأسرة المغربية والعلاقات الاجتماعية.
ولنا أن نتخيل ماذا سيقع إذا اكتفينا بتطبيق القوانين وتبني المقاربة الأمنية في معزل عن خطة شمولية ومندمجة للإصلاح، فالقوانين -مثلا- تمنع من السكر العلني، فإذا أرادت الدولة تطبيق القانون، فعليها أن تلقي القبض على ملايين المغاربة في يوم واحد، خصوصا إذا علمنا أن المغرب ينتج 55 مليون قنينة سنويا، أغلبها يستقر في بطون المغاربة المسلمين، مما يجعلهم مخالفين للقانون مستحقين للعقوبة، وما يقال في الخمر يقال في الزنا والدعارة وترويج المخدرات والقرقوبي، فكلها جرائم معلومة يرتكبها الآلاف يوميا على مرأى ومسمع من الكل، فإذا أردنا أن نلقي القبض على مرتكبيها نحتاج لبناء مئات السجون ليسكنها أغلب المغاربة، ومثلها من الإصلاحيات ليقبع فيها أغلب أبنائهم.
قد يرى البعض أن الدولة في حاجة ماسة إلى الاستعانة بالجمعيات والمنظمات الأهلية أو ما اصطلح عليه بالمجتمع المدني حتى توقف استفحال معضلة الجريمة، لكن السؤال المتبادر إلى الذهن هو:
هل استطاعت الدول الغربية أن تقضي على الجريمة في مجتمعاتها رغم “ديمقراطيتها” ورقيها الحضاري وتقدمها العلمي وازدهارها الاقتصادي وتربية شعوبها على قيم المواطنة وعلى مبادئ حقوق الإنسان، ورغم تشكيلها لمجتمع مدني قوي ومدرب وإشراكه في تدبير الشأن العام؟
الجواب: لا، وتسنده المعدلات العالية للجريمة، وارتفاعها عاما بعد آخر حسب التصريحات الرسمية لحكومات الدول الغربية. بحيث يمكن أن نجزم بأن تلك الدول لم تستطع أن تحقق الأمن لمواطنيها حيث يبقى الخوف مهيمنا على الإنسان بمجرد أن يفتح باب منزله.
إذا، أين الخلل؟ ولماذا لم يفلح المجتمع المدني الغربي رغم قوته أن يحقق الأمن والسلم الاجتماعيين؟
الخلل بالتأكيد يكمن في اندثار منظومة القيم الأخلاقية المستمدة من الدين، هذا الاندثار الذي كان نتيجة حتمية لفصل المخلوق عن خالقه، وإقصاء الدين من المساهمة في تدبير الشأن العام بدعوى فساد الكنيسة ورجالها، حيث لم يتم الاقتصار على إصلاحها ومعاقبة المفسدين من رجالها، بل فضل العلمانيون أن يحاربوا الدين في كل مناحي الحياة، فكانت النتيجة فشل النظم البشرية في ضبط سلوك الإنسان وتهذيب وحشيته.
أما بخصوص المجتمع المدني فالغاية من إنشائه كمنت في التخفيف من الفوارق الاجتماعية الهائلة، والتقليل من آثار الاستغلال البشع للإنسان، الذي تحول في ظل النظم الرأسمالية الليبرالية العلمانية المتوحشة إلى قطع غيار في آلة كبيرة لإنتاج ثروة تتكدس في أيدي قلة.
فالمجتمع المدني هو وسيلة للتقليل من عيوب النظم العلمانية وإخفاء قصورها عن تحقيق السعادة والأمن للإنسان، هذا الإنسان الذي بلغت وحشيته في ظل تلك النظم إلى حد أن أصبح يتاجر في الأعضاء الآدمية كما يتاجر في لحوم البهائم. فالعلمانية تجمع لهذا الإنسان بين ضغط الفقر ومعاناته وبين استفزاز طبائع الأنانية والظلم التي جُبِل عليها، بحيث يصير مستعدا لارتكاب الجريمة في سبيل تحقيق احتياجاته، ومن هنا تأتي الحاجة إلى التدين وإشاعته لنشر قيم التكافل والأخلاق الإسلامية التي تقلل من ضغط الفقر وتهذب من طبائع الأنانية والظلم فتنقص الجرائم ويسود الأمن بين الناس.
فتبعية النظام الاقتصادي والسياسي المغربي بشكل كلي للنظام الرأسمالي الليبرالي الغربي، تجعله في حالة تناقض مع هوية الشعب المغربي، فالسياسة الاقتصادية المغربية لا تراعي منظومة قيمنا وأخلاقنا المؤسسة على دعائم هويتنا الإسلامية، بل تعمل يوما بعد يوم على تفكيك أسرنا لصالح النزعة الفردية، التي تعتبر السلاح الأساسي في عملية تطويع المجتمعات المتدينة لهيمنة النظم العلمانية، التي ترى أن القيم الأخلاقية والشرائع الربانية قيود على الإبداع والإنتاج، وحائل قوي يمنع من التنمية والتقدم.
إذا، لا فائدة في استنساخ النظم العلمانية الغربية أو اقتفاء أثرها، ما دامت تلك الدول نفسها لم تتمكن من حل معضلاتها الاجتماعية، فالإصلاح يقتضي من مسؤولينا أن يعيدوا النظر في الطريقة التي يتعاطون بها مع فعاليات المجتمع، حيث نرى إصرارا على التمييز بين الجمعيات على أساس توجهها ومرجعيتها، فيتم الترحيب بالجمعيات ذات التوجه العلماني أو الجمعيات التي لا توجّه يحكم عملها، بينما يتم إقصاء ما أمكن إقصاؤه من الجمعيات ذات المرجعية الإسلامية أو التي يغلب على النشطاء فيها طابع التدين.
بل نجد أن الجمعيات التي تعنى بتحفيظ القرآن وتحارب الأمية وتقدم الخدمات الاجتماعية المتنوعة للمواطنين يتم إقصاؤها والتضييق عليها، رغم أنها تعمل على تحقيق الأمن والسلم بشكل ملحوظ من خلال نشرها لقيم الإسلام العالية وأخلاقه السمحة، فعندما تعجز الدولة عن تحقيق الأمن بمقاربتها الأمنية فقط، يأتي دور المجتمع المدني ذي التوجه الأخلاقي والديني حتى يضطلع بواجب المساهمة في الإصلاح والأمن.
فالأمن نعمة من النعم الكبيرة الجليلة التي لا تستقيم حياة الإنسان بدونها، بل هو مطلب من أهم المطالب سواء في الدنيا أم الآخرة، قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ”الأنعام. كما أنه – أي الأمن- جزاء ونتيجة للإيمان والعمل الصالح، قال الخالق سبحانه: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” النور.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *