الثورة.. تبديل لحجارة رقعة الشطرنج فقط

العلاقة الطيبة الحسنة بين الحاكم والمحكوم وبين الراعي والرعية من أهم ركائز الاستقرار وأعظم دعائم القوة، ..والاستقرار والقوة هما ساقا العزة والمنعة، لهذا أمر الله سبحانه ولاة أمور المسلمين بالعدل والإحسان في الحكم، كما أمرهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالرحمة والرفق بمن هم تحت سطتهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به“.(1)
فالعدل والإحسان والرحمة والرفق من طرف الولاة تثمر محبة الشعوب لهم، وتؤهلهم لوصف الخيرية الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم“.
وبالمقابل فالظلم والجور والتعسف والاستئثار بالثروة والإهانة تجعل الولاة محل بغض الشعوب ولعنتهم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث السابق ذكره: “وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم“.(2)
ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم أنه لم يذكر الفعل واقتصر على ما يترتب عنه، ليرشد الحكام إلى اجتناب كل ما يستوجب بغض الرعية ولعنهم، فيحصل لهم من الخيرية ما يجعل الناس يحبونهم ويصلون عليهم.
إن هذه المعاني يستشعر أهميتها من يعلم يقينا أن عودة العزة والمنعة والاستقرار والقوة إلى يدي المسلمين لن تتم إلا بالرجوع إلى القرآن والسنة وتحكيمهما في كل شؤون الحياة دون تفريق بين حياة خاصة وعامة ولا بين أمور داخلية وخارجية، ولا بين مصنع ومسجد، ولا بين بيت ومصنع، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، والسلم هنا هو الإسلام، أي في الإسلام كله.
فعندما اتخذ الكثير من المسلمين الإسلام وأحكامه وراءهم ظهريا، وابتعدوا عن السياسة الشرعية، واستعاضوا عنها بقوانين الغرب ونظمه العلمانية، فسدت أحوال الحكام والشعوب، وكثرت الانقلابات والثورات، حتى أصبحنا نرى خروج الملايين ليطالبوا بإزاحة حاكمهم من على كرسيه.
فالناظر في أحوال الشعوب الإسلامية وعلى وجه التحديد العربية منها يجزم بأنها تنشد التغيير، ترابط عند بابه، تحاول فتحه بقوة، تروم ولوجه مهما كلفها الأمر، فالبطالة استشرت بين أبنائها، والجوع والفقر عشعش في بيوت أسرها، بينما ترى الفاسدين والوصوليين يراكمون الثروات ويعبثون بمستقبل الشباب الحالم، الشباب الذي سئم الخطابات الجوفاء والوعود العقيمة، والبرامج التي تنتهي بوضع برامج أخرى هي بدورها مقدمات لبرامج ثالثة ورابعة وخامسة وهلم جرا وسحبا.
فالخبز والعمل وتوزيع ثروات البلاد بالعدل ومحاربة الفساد كلها مطالب عادلة ووجيهة يصفع بها مئات الألوف من الرجال والنساء والشباب وجوه من تولوا أمر تسيير أمورهم العامة، لكن وحتى لا نكون “خبزويين” أتباع كل من يرفع شعارات الإصلاح لأنه فقط يحسن العزف على مصارين البطون ويتقن إلى جانب هذا العزف الغناء بكلمات التنقص من الحكام، وعبارات التهييج، التي تذهب بجلاء البصر، وتحد من بُعد النظر، وبعد أن يتوقف العزف والغناء تجد الأوضاع قد زادت خطورتها، والمعضلات قد اشتد تعقدها، فحتى لا نكون “خبزويين” علينا أن نطرح تساؤلات ربما تضيع أجوبتها في أجواء الحماس والرغبة في التغيير.
فهل الهدف من الثورة هو التغيير أم الإصلاح؟
وإذا كان الهدف هو الإصلاح لا مجرد التغيير، فهل يملك الثوار وسائله ودعائمه وهل تتوفر فيهم شروطه؟
وإذا كان الإصلاح ليس بيد الثوار فمن سيستفيد من التغيير؟
وهل الفساد ينحصر في أشخاص الحاكم وزوجته وأبنائه؟؟
ومن يضمن في غياب التأطير وتضارب الآراء واختلاف المذاهب أن يكون التغيير بالضرورة موصلا إلى الإصلاح، خصوصا أن مثل هذه الثورات لا يقوم بها من لهم نفاذ في المجتمع أو قوة تخولهم فرض برامجهم؟
وأي إصلاح سنحققه وغالبية القوى المتصارعة مشكلة من الأقباط والعلمانيين، المؤيَّدين من طرف الغرب: العدو الأكبر لكل رجوع إلى نظام الإسلام في الحكم؟
وهل سيقدم الثوار في مصر مثلا -وأغلبهم كما قلنا من العلمانيين والأقباط- مشاريع للإصلاح مبنية على شريعة الإسلام ومقومات هوية الشعب المسلم؟
ومن المؤهل لقيادة مرحلة ما بعد إسقاط الرئيس خصوصا في ظل الفسيفساء السياسية والاتهامات المتبادلة بين كل الحساسيات والفعاليات وضعف المؤسسات السياسية؟
وما موقف القيادة الجديدة التي ستنبثق عن الثورة من الملفات الكبرى كتطبيق الشريعة الإسلامية، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، والحرب على الإرهاب وفق الطريقة والإملاءات الأمريكية؟
هل ستستمر مصر في حصار الفلسطينيين واحترام معاهدة السلام المخزية؟
وأين الغرب المتربص بمقدرات البلاد والنافذ إلى أعماق القوى المؤثرة على اختلاف ميادينها خصوصا السياسية والاقتصادية والثقافية؟
في الحقيقة، كثيرة هي الأسئلة التي يمكن أن تطرح على مرحلة ما بعد الثورة، لكن يبدو أن الذين قاموا بما سُمِّي ثورة الشعب، لا تهمهم هذه الأسئلة ولا الإجابة عنها، بقدر ما يهمهم الأكل والشرب والوظيفة والتناوب الشكلي على السلطة، وهذا ما جعل أغلب شعوبنا فعلا “خبزويين”.
أما من يدير دواليب الثورة في الخفاء، ويبحث عن أحجار جديدة يملأ بها فراغ مُرَبَّعي تونس ومصر، تمكنه من الاستمرار في اللعب على رقعة الشطرنج، فإنه لا يهمه في هذا الوقت الأكل والشرب ولا التناوب على السلطة، بقدر ما يهمه أن لا يفضي التغيير إلى وصول الإسلام إلى سدة الحكم، لهذا تم التغيير في تونس ومصر عن طريق ثورة شعبية لا رموز فيها ولا زعامات ولا برامج ولا إديولوجيات، حيث لم تقم بها لا الأحزاب ولا الجماعات الإسلامية، مما جعل الأمر في كلا الدولتين يؤول إلى مؤسسة  الجيش، التي لا تزال خاضعة لرجال النظامين السابقين، الأمر الذي يعني في النهاية أن التغيير شكلي فقط، ولن يصب إلا في اتجاه المصالح الاستراتيجية للكيان الصهيوني وأمريكا، وهذا ما يفسر مسارعة المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية إلى الإعلان أن مصر ستحترم المعاهدات الدولية وعلى رأسها بالطبع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني مما يعني استمرار لعب دور الشرطي الذي يحمي الكيان الصهيوني ويحاصر الفلسطينيين.
فالشباب اليائس أحرق نفسه، والشعب الغاضب خرج من بيوته، والرئيس “الورقة المحروقة” تنازل عن الحكم للجيش، والجيش سيحمي السلطة ليضعها في النهاية بين أيدي العلمانيين لكن بشكل ديمقراطي، والعلمانيون  لا يؤمنون بمرجعية أعلى من مرجعية المواثيق الدولية، والمواثيق الدولية لا تحمي شيئا أعز لديها من الكيان الصهيوني، وبهذا نكون قد دخلنا المرحلة الأولى من مراحل الشرق الأوسط الكبير الذي وضع خطته وخريطته الصهاينة وحلفاؤهم من دول الغرب، والذي ستمثل دولة الكيان الصهيوني جزء منه، تربطه بباقي الدول العربية المسلمة علاقات السلام والتطبيع.
لهذا نجد الرئيس الأمريكي أوباما يشدد على أن المجتمع المصري ليس هو جماعة “الإخوان المسلمون” فقط، مع إقراره بأن لديهم مواقف مخيفة، قائلاً “أعتقد أنهم أحد الفصائل في مصر. هم لا يتمتعون بدعم غالبية المصريين، ولكنهم منظمون جيدًا. وفي أيديولوجيتهم نواح معادية للأميركيين، لا شك في ذلك. لكن ثمة مجموعة كبيرة من الأشخاص العلمانيين في مصر، ثمة مجتمع مدني واسع يريد التقدم إلى الواجهة أيضًا. ومن المهم ألا نقول إن الخيارين الوحيدين أمامنا هما الإخوان المسلمون أو شعب مصري مقموع. أريد حكومة تمثيلية في مصر، ولدي الثقة بأنه إذا تقدموا في عملية منظمة، يمكننا العمل معا”.
ولنلاحظ كيف أسقط أوباما من حسابه الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية وركز على ما أسماه “مجموعة كبيرة من الأشخاص العلمانيين” و”مجتمع مدني واسع” غالبيته مكونة من جمعيات ومنظمات علمانية أيضا.
إذا واضح ما ستؤول إليه الثورة، وواضح أن الأيادي الصهيونية والأمريكية ترتب الأوراق في كل الملفات التي تفتح على طاولة المفاوضات بين الجيشين المصري والتونسي والثوار.
فإذا أخذنا بعين الاعتبار تصريحات زعماء الدول الغربية قاطبة تبين لنا أن هذه الدول ترعى التغيير وتوجهه، وذلك بإضفاء الشرعية على الثورة وتأييدها، وسحب الدعم والحماية من الرئيسين المخلوعين بل الترحيب بإسقاطهما، دون القيام بأي تدخل سافر في شؤون تنصيب الحاكم الجديد، وذلك حتى تضمن الانتقال السلس للسلطة، تجنبا لإثارة اضطرابات قد تقلب الموازين فتستولي التيارات الإسلامية على الحكم.
فمن ينجر من المواطنين والدعاة مع هتافات الذين خرجوا في ثورة الياسمين أو إلى ميدان الحرية واهم، لأن التغيير لا يستغله إلا النافذ في جذور الدولة والمجتمع، ويملك من الوسائل والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية ما يكفيه لتطبيق مستلزمات الإصلاح كما يراه، ولا يكفي أن نرفع شعار الإسلام هو الحل أو أن نسهم في تغيير سيستفيد منه في المقام الأول عدو الشعوب الإسلامية ووكلاؤه من العلمانيين.
إن العمل على تحقيق الإصلاح يجب قبل الأخذ بأسباب القوة المادية أن ينبني أساسه على الاعتصام بالقرآن والسنة وفهم السلف الصالح، وأن نصفي ما شاب ديننا وحياتنا وعوائدنا من بدع وانحرافات عقدية، وأن نربي النشء على هدي الإسلام ليحقق أركان العبودية لله وحده، فالمسلمون لم يقيموا دولتهم إلا على الإسلام وبالإسلام، ولم يضعفوا ويذلوا ويستحوذ عليهم عدوهم إلا بعدما ضعف إسلامهم، وتنكبوا سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، وتركوا العمل بكتاب ربهم القائل سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

(1) و(2) صحيح مسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *