فقه الإصلاح والتغيير ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم ﴾ أبو عبد الرحمن ذو الفقار بلعويدي

واقعنا المعاصر تشخيص الداء ووصف الدواء

كما هو معلوم سلفا أن التغيير سنة كونية لازمة للإنسان بطبعه وفطرته؛ تغيير على مستوى التدبير والعوائد والإبداع في تجديد حاجياته وطرق تعايشه…، فهو في اصطلاح الناس يقصد به بصفة عامة استبدال حال جديد بحال قديم ووضع بوضع، الغاية منه إصلاح حالة فاسدة. ولا يلزم من هذا أن يكون القديم كله فاسدا وسيئا والجديد صالحا وحسنا. والتغيير هو أنواع وله وسائل ويحدث في مجالات، والذي يهمنا في هذا المقام هو “التغيير الاجتماعي” أو “تغيير المجتمعات والدول في مسارها السياسي”. ومَن هذا الذي يجرؤ على جحد الحاجة الماسة والضرورية لإصلاح شامل للأحوال الفاسدة التي لازمت مجتمعاتنا، وهذا الحضيض الذي لا تدانيها فيه أمة في زمنها الحاضر. حيث شمل الفساد كل مجالاتها؛ العقدية والعلمية والأخلاقية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والدستورية. وجمعت من أفرادها بين أحضانها كل رطب ويابس وغث وسمين، بحيث صارت لا تختلف تركيبتها الاجتماعية في الأخلاق والسلوك عن تركيبة المجتمعات اللادينية. وفي مثل هذا الحال يتعين لزاما عند عملية الإصلاح تحديد نوع الظلم ومصدر الفساد، وإلا التبست السبل واختلطت الرايات وتشابهت الشارات. فلا يجدي والحال هذه في تغيير الوضع هتاف أو صياح أو عويل أو صراخ. فإنه لا يتم إصلاح شامل أو أقرب إلى الكمال لأمر غير مستبان وجهه. فكما أن المسببات دائما تابعة لأسبابها، فإن النتائج دائما تابعة لمقدماتها. وإذا ما كانت المقدمات غير صحيحة كانت النتائج وخيمة؛ وسنة الله لا تحابي أحداً. وبدون حسم في مثل ظروف كهذه التي تستدعي الوضوح الكامل ومعرفة طبيعة المعركة بلا مجاملة ولا مداهنة، ولا تلفيق ولا ترقيع، هو ضرب من العبث وتمييع لا يقوم به إلا مخادع أو مخدوع، ولا يقدم عليه من يريد إصلاحا وتغييرا حقيقيين. لا يقدم عليه إلا من يريد تضليل الأمة عن وجهتها الحقيقية في الإصلاح والتغيير. و ما لم يستيقن المسلم هذه الحقيقة فلا فلاح ولا نجاح ولا تغيير ولا إصلاح.
لكن صرحاء…
إن ما تعانيه الأمة الإسلامية في زمنها هذا هو أكبر من أن تغيره مسيرات أو مظاهرات أو إضرابات أو انقلابات أو تفجيرات أو إنزالات أو اعتصامات أو وقفات تضامنية أو ثورات أو ترقيع مشاريع أو تلفيق أفكار.
إنها أمة تعاني من أزمة تحقيق الذات، أزمة التنكر لهويتها، أزمة الجهل بحقيقة نفسها وحقيقة خصمها، أزمة جهلها بما هو مطلوب منها، أزمة جهلها بما هي في حاجة إليه. أزمة صراع بين الأصيل والدخيل، أزمة انشقاقات فكرية؛ صراع بين خلوف الاستعمار الغربي الذين يقومون مقامه بعد استقلالهم – زعموا – ينبذون الدين، ويطالبون في وقاحة علنا بعزل سلطان الإسلام عن تنظيم حياة المسلمين؛ يطالبون بدولة للمسلمين بلا إسلام. وبين جيل يعمل على استرداد استقلاليته الفكرية ويرفض كل أنواع التبعية الفكرية للغرب، جيل يعتز بانتمائه الإسلامي، ويتخذ الإسلام دينا ومنهجا وخريطة عمل في الحياة.
نحن أمة أزمتها ليست حكومة ومعارضة، وإنما أزمتها معارضتين. معارضة إسلامية ومعارضة علمانية، معارضة ترضى بالإسلام عقيدة وشرعة ومنهجا ومرجعا سياسيا، ومعارضة ترفض شريعة الإسلام والاهتداء بهديه. إنها أزمة مرجعيات. أزمة إما أن يسود الإسلام أو تسود العلمانية. وعدم انفراج الأوضاع في البلدان التي لا تعيش حاليا استقرارا سياسيا كتونس ومصر إضافة إلى ليبيا واليمن وسوريا، يصدق هذا كله ويؤكد أنه لا بد أولا من تحديد مرجعية التغيير.
إنها البلاهة البلهاء حين نتجاهل -ونحن نروم إصلاحا- كل ما فعله الاستعمار الصليبي من شرخ بالمجتمع الإسلامي وزرعه مبادئ العلمانية في جسم الأمة. حتى انتهى بنا الحال إلى ما نحن عليه من انقسام المجتمع الواحد إلى منظمتين، أو قل فصيلين؛ فصيل إسلامي بكل شرائحه، وفصيل علماني بكل أطيافه. هذه هي الصورة الواقعية ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تلقى مراء ولا جدالا. لأن من مقتضيات الإصلاح تحديد مرجع الفساد، وذلك حتى يتسنى تحديد أسبابه وسبل إصلاحه. والذين يحاولون غض الطرف عن هذه القضية وتمييعها لا يحققون نجاحا يرقى إلى مستوى تحقيق تغيير هادف. الشيء الذي يجعل كل محاولة إصلاح داخل المجتمعات الإسلامية على غير أساس المفاصلة بين علمانييها ومسلميها، بين من يريدها لا دينية وبين من يريدها إسلامية محاولة فاشلة لا تحقق تغييرا ولا إصلاحا. لأن المجتمع المسلم لا إصلاح له إلا بالإسلام. و من ثم لا يمكن تحقيق إصلاح شامل لمجتمع مسلم إلا بمن يريد الإسلام. هذا أولا وهي قضية أساسية في غاية الأهمية لمن يريد إصلاحا. وصدق الله العظيم القائل : ﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾(1).
معالم في طريق التغيير.
إنه لا تغيير على الإطلاق إلا إذا سبقه تغيير في الحياة الاجتماعية على مستوى التصور والفكر والقيم والأخلاق وإظهار أفراد المجتمع استعدادهم الكامل للامتثال والالتزام بالمبادئ التي يقوم على أساسها مشروعهم التغييري، وذلك حتى يظهر للمتتبع في كل ما يصدر عنهم من سلوك ومبادرات وإنجازات ومواقف وعطاءات وتضحيات نوع المجتمع الذي يطمحون لإنشائه. لأن نوع الأفكار والمبادئ والقيم هي التي تصنع التغيير وليس العكس ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(2).
فالتغيير الجاري في حياة الناس تابع لسلوكهم وأعمالهم وواقع حالهم في إطار قانون كوني وسنة جارية بشكل متلازم تلازم الجزاء بالعمل ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾(3). فالإنسان يملك تحديد مصير نفسه ومصير الأحداث من حوله، بل ونوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه. وقد قضت مشيئة الله بعدله سبحانه أن تترتب أحوال الناس تبعا لتصرفاتهم. وهذا يعني أنه كلما غير الناس من أعمالهم غير الله من أحوالهم قدرا وفق ما غيروا من أعمالهم. حتى إذا ما تخدر شعورهم وتأصلت شرورهم وتبلدت أحاسيسهم و أعلنوا الفواحش وأظهروا القبائح وصاروا يشهرونها ولا يرونها شيئا منكرا معيبا، واتخذوها منهجا عاما في حياتهم، أصابهم من الشر والفساد والدمار والهلاك وظلم بعضهم البعض بقدر ما تركوا من الخير والصلاح ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(4).
هذا من حيث المبدإ، أما سبل تحقيقه فهي في اشتغال الفرد أولا بأداء ما هو واجب عليه، قبل اشتغاله بالمطالبة بما هو حق له. لأن العلاقة بين أداء الواجبات وضمان الحقوق علاقة متلازمة، بحيث حين يؤدي كل فرد في المجتمع واجبه يضمن تلقائيا حق الآخر. فما هو واجب على الحاكم هو حق للمحكوم، وما هو واجب على المحكوم هو حق للحاكم، وما هو واجب على الرجل هو حق للمرأة، وما هو واجب على المرأة هو حق للرجل، وما هو واجب على الأسرة هو حق للأبناء، وما هو واجب على الأبناء هو حق للأسرة، وما هو واجب على المشغل هو حق للأجير، وما هو واجب على الأجير هو حق للمشغل،…، وهكذا فإن جميع الحقوق تنبني على أداء الواجبات. ولو اشتغل أفراد المجتمع بأداء واجباتهم لضمنوا حقوقهم تلقائيا. فترك الواجبات من أكبر دوافع تأزم الأمم وفسادها. وليت شعري كيف يصلح أمر إذا ما كان أكثر المشتغلين بمطالبة حقوقهم مقصرون في أداء واجباتهم، وصدق القائل : مَا يُصلحُ المِلْحَ إذا المِلحُ فسدْ!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)سورة آل عمران الآية 179.
(2) سورة الرعد الآية11.
(3) سورة الأعراف الآية 58.
(4) سورة الأنفال الآية 53.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *