هل سيبقى المغرب استثناء من الدول العربية؟

 إن إمارة المؤمنين وجهاز الملك والمغاربة الشرفاء في هذه الأيام العصيبة التي تجتازها البلدان العربية بحاجة إلى مصلحين حقيقيين وليس إلى مهندسين مخابراتيين ذوي أدمغة أمنية ألِفت أن ترهب القلوب والنفوس وتكمم الأفواه حتى تحافظ على استقرار كاذب وسكينة مصطنعة وهدوء زائف، استقرار وسكينة وهدوء انقلب في رمشة عين خروجا واضطرابا واحتجاجا واعتصاما وتظاهرا..

“السعيد من وعظ بغيره”، حكمة ربما صار اليوم رؤساء البلدان وكبار رجالات الأنظمة العربية أحوج الناس إلى فهم معناها وامتثال مغزاها، والاعتبار بهذا “الغير” الذي أطاح به ركام الظلم والجبروت وجبال المفاسد والمظالم التي أقترفها من يدورون في فلكه من حاشية ومقربين هم في الغالب أصحاب بطون لا تمتلئ أو تشبع وقلوب لا ترحم أو تخشع في حق شعوب ضعيفة لكنها أبيَّة.
بلدان عربية هبَّت عليها رياح التغيير عاتية فرمت برؤسائها إلى السجن أو المنفى، رؤساء كان الكل يظن أنهم سيُحملون من قصورهم إلى قبورهم، مصحوبين بموسيقى عسكرية تحف بهم الحاشية والخدم وكبار الضباط، ويشيع نعوشهم رؤساء العالم وملوكه وكبرائه، وتؤلف قصائد الراثين المنافقين تعدد مناقبهم وتضحياتهم وحنكتهم في إدارة الحكم، فإذا بهم تتقاذفهم أمواج الغضب العارمة، إنها عاقبة معاناة شعوب صبرت على جلد الظهر ظلما، وأكل المال سحتا دون وجه حق، لكن الصبر ما زاد الطغاة إلا طغيانا والجبابرة إلا تجبرا.
ونتساءل -في ظل هذا كله- إلى متى سيبقى المغرب استثناء؟
سؤال ليس من أجل التهييج، ولا من أجل إثارة الفتن، ولا لكوننا لا نعتقد في الإجماع الحاصل حول تحييد العاهل المغربي -رزقه الله البطانة الصالحة التي تعينه على الحق- من دائرة التدافع.
نتساءل.. لأننا نرى المفسدين يفسدون باسم النظام، ويعتقلون باسم النظام، و يسلبون باسم القرب من مصادر السلطة، وينهبون ليقينهم أن العدالة لن تطالهم.
نتساءل.. لأنهم ينشرون في الناس أنهم يُروِّعون المغاربة باسم أمن الدولة، ويسجنون الصحافيين باسم أمن البلاد، وينزلون الخطباء من على المنابر باسم الأمن الروحي للبلاد، ويغلقون دور القرآن من أجل الأمن الروحي للمغاربة أيضا، ويتشبثون بمهرجانات الغناء والرقص الماجن من أجل المغاربة، رغم أن إلغاءها صار من مطالب كل الفئات والتيارات التي سكنت الشوارع قصد الاحتجاج.
نتساءل: هل يمكن أن يبقى المغرب استثناء؟
نتساءل.. ليس لتهييج الناس ضد النظام أو لأننا لسنا مؤمنين بإمارة المؤمنين خارجين عليها.
فإذا كان منهجنا لا يسوغ لنا الخروج عليها. فإن منهجنا في المقابل لا يبيح لنا السكوت عن الظلم والمنكر والفساد.
إننا نتساءل.. ونتساءل.. ثم نتساءل، لأننا نرى أن إمارة المؤمنين تشق طريق الإصلاح ويتنازل الملك عن اختصاصاتٍ ألِف الملوك أن يمارسوها منذ قرون في المغرب استجابة لمطالب المغاربة، بينما في المقابل نرى من يُفترض فيهم أن يكونوا أول الممتثلين لتوصيات الملك وتوجيهاته يتخذون من القرارات ما يؤجج مشاعر الغضب عند الألوف من المغاربة، قرارات وتدابير تستفز مشاعر أكثر الناس بلادة ليحس بالقهر والظلم.
فكيف يمكن مثلا أن يعتقل الأستاذ رشيد نيني مدير أكثر الجرائد اليومية انتشارا فقط لأنه تجرأ على انتقاد من يراهم من المفسدين، رغم أن الآلاف من المواطنين والمئات من السياسيين والإعلاميين يشاطرونه الرأي نفسه؟
وكيف لا يزداد الناس كرها وحقدا على أجهزة الدولة وهم يرون أن جهاز القضاء الذي شهدت التقارير الدولية والوطنية ويعلم القاصي والداني من المواطنين بفساده وإفلاسه، قضاته هم من سيحاكمون الإعلامي رشيد نيني، لأنه تجرأ على انتقاد محاكم وزارة العدل وقضائها غير المستقل وأجهزة الأمن والمخابرات، ولكونه طالب بإقفال معتقل تمارة الذي تواترت الشهادات والتقارير أنه معتقل التعذيب وهدر الكرامة وإلحاق الإذلال بالمغاربة وانتهاك حقوقهم وشرفهم؟
إن إمارة المؤمنين وجهاز الملك والمغاربة الشرفاء في هذه الأيام العصيبة التي تجتازها البلدان العربية بحاجة إلى مصلحين حقيقيين وليس إلى مهندسين مخابراتيين ذوي أدمغة أمنية ألفت أن ترهب القلوب والنفوس وتكمم الأفواه حتى تحافظ على استقرار كاذب وسكينة مصطنعة وهدوء زائف، استقرار وسكينة وهدوء انقلب في رمشة عين خروجا واضطرابا واحتجاجا واعتصاما وتظاهرا..
فتكميم الأفواه وإرهاب الناس طيلة عقد من الزمن، هو عمر العهد الجديد خصوصا بعد 16 ماي 2003م، جعل الناس في ظل الثورات العاصفة بأنظمة الحكم في البلدان العربية يستبقون الأحداث، ويقطعون الطريق على من قد تسول له نفسه استغلال التفجيرات الإجرامية الآثمة المعتوهة لتوسيع دائرة الاشتباه، واقتراف المزيد من الظلم والجور قصد إسكات أفواه انطلقت ألسنتها للمطالبة بالإصلاح، وفكت عقدة الخوف من قلوب أصحابها فنادت بمعاقبة المفسدين.
وإذا كان شعار “الشعب يريد إسقاط الفساد” شعارا مجمعا عليه بين كل فئات المطالبين بالإصلاح رغم اختلاف مرجعياتهم ومشاربهم، فلأنه يجد مصداقيته ليس في كثرة الرافعين له بل في فشو الفساد في الواقع وتسلط المفسدين على الصالحين، فلا أحد يماري في كون الفساد أصبح يجري من الجسم المغربي مجرى الدم كأنه داء الكَلَب، عشعش في مفاصله حتى تكلست، فأصبح مشلولا لا يقوى على الحركة.
لذا فالمفسدون أمام خيارين: إما أن يرضوا بنهايتهم، فلكل شيء نهاية يؤول إليها، وإما أن يعاندوا ويكابروا رياح المطالبين بالإصلاحات فيدخلوا المغرب في متاهات لن يكون أبدا حاله فيها أفضل من دول عربية نتابع أخبار إحتراقها ودمارها يوميا على القنوات الإخبارية.
إننا نحتاج إلى إصلاح يعيد الثقة للأمة في حاكمها وحكومتها.
إصلاح ينسينا الذل والمهانة.
إصلاح يمنحنا الأمن والطمأنينة.
إصلاح نحس في ظله بأننا مغاربة حقا فنفتخر بمغربيتنا.
إصلاح يعيد البلاد وثرواتها إلى أيدي المغاربة الأحرار.
إصلاح يصون أعراض بناتنا ويحفظ سلوك أبنائنا من الانحراف.
إصلاح تندثر معه نقط البيع العلنية للمخدرات والقرقوبي وتنمحي معه مظاهر السلب والنهب بالسيوف من أحيائنا.
إصلاح يجعل المغربي عندما يريد الدخول إلى إدارات وزارة الداخلية أو إلى محاكم وزارة العدل يكف عن ترتيل دعاء لقاء العدو: “اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم”، ليقينه أنه ليس في مأمن من الشر، وأقل ما يمكن أن يلحقه هو “رشوة” أو “قهوة” أو “تدويرة” يحلبها منه “المخزني”.
إننا اليوم خصوصا في ظل هذه التفجيرات العمياء في حاجة إلى مصلحين مخلصين وإلى وطنيين غيورين قادرين على إخماد النيران المتأججة في صدور الجماهير والتي تتزايد أعدادها يوما بعد يوم.
لكن إخماد نيران الصدور ليس بخنق أصحابها في زنازن التعذيب أو ترهيبهم أو تهديدهم وإنما بوضع برامج وخطط تحقق ما هو حق من مطالبهم الإصلاحية، وتستجيب لما هو صدق من انتقاداتهم، ووجيه من احتجاجاتهم.
إننا في حاجة اليوم إلى رجال دولة ينصتون إلى مطالب الناس بقلوبهم فيعملون على تلبيتها وفق برامج واضحة وخطط شفافة لا التواء فيها لكسب الوقت ولا احتواء فيها لفورة الاحتجاجات حتى يسكن الغضب فيبقى المفسدون في سربهم آمنون ويستمر المظلومون في الذل مقهورين.
إننا بالإصلاح وحده نكون فعلا قادرين على أن نحافظ على هذا الاستثناء المغربي.
إننا باختصار نحتاج إلى أن نعيش في كرامة وعز، نحتاج إلى إصلاح يبعث فينا الأمل ويحيي في المغاربة حب بلدهم والثقة في دولتهم، ولن يكون هذا إلا إذا انتدب له مصلحون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعلمون أن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل، مصلحون يدركون أن المغاربة مسلمون ولا يصلحهم إلا الإسلام، مصلحون يمتثلون قول ربهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}الأنفال. وقول خالقهم سبحانه: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} الشورى.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *