يبدو من خلال الأحداث المتسارعة التي شملت بلدان الربيع العربي أن هناك امتحانا عسيرا تجتازه “الديمقراطية” التي لطالما سوق لها الغرب ومن تبعه من العلمانيين أنها الحل الأمثل لكل مشاكلنا.
فالربيع العربي كان من أروع ثماره، وأبهى أزهاره اختيار الشعوب عبر صناديق الاقتراع “الديمقراطية” للتيارات الإسلامية كي تحكمها رغم الآلاف من المقالات الكاذبة والأفلام المغرضة والكتب الملبسة والمحاضرات المدلسة التي أنتجها العلمانيون خلال عقود للتحذير من خطر الإسلاميين قصد التنفير منهم لكن دون جدوى.
ما نتابعه في مصر اليوم يكشف بجلاء أن “الديمقراطية” ليست هي الحل لمشاكل المسلمين، ليس بسبب العيوب التي تكتنف آلياتها وفلسفاتها، ولكن لأن الذين يدعون إليها ويشاركون فيها لا يستجيبون لنتائجها ولما تقرره آلياتها، إلا إذا كانوا هم الفائزين فيها أو جاءت وفق ما يشتهون.
ولفهم ما يجري في مصر ننبش في الأوراق الدامية للتجربة الجزائرية:
بعد ثورة الجياع والمقهورين سنة 1988م اضطر العسكر للرضوخ، وأقرت جنرالاته مكرهين بالتعددية السياسية، فنظمت في سنة 1990م انتخابات المجالس البلدية والولائية، وحظيت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بفوز ساحق، حيث حصلت على 953 مجلسا بلديا من أصل 1539 و32 مجلسا ولائيا من أصل 48.
ثم تلتها الانتخابات البرلمانية في 26 من دجنبر 1991م فكانت النتيجة مذهلة حيث أحرزت الجبهة مرة أخرى فوزا ساحقا بلغ 82 في المائة، وتمثل في حصولها على 188 مقعدا من أصل 231 وهو ما جعلها تصل إلى أحد أهم مراكز القرار.
وبعد 16 يوما من هذا الفوز الهائل، ودون سابق إنذار قدم الرئيس الشاذلي في 11 يناير 1992 استقالته تحت ضغط الجنرالات الذين ما كانت لتروقهم نتائج “الديمقراطية” الوليدة، فنقلوا السلطة إلى المجلس الأعلى للدولة الذي كان العسكر هو صاحب القرار الأول والأخير فيه برئاسة وزير الدفاع خالد نزار، فقرر الانقلاب على “الديمقراطية” حيث لم يتوان في أخذ قرار إلغاء الانتخابات الأولى في تاريخ الجزائر، أردفه بإعلان حالة الطوارئ، والتعليل هو إنقاذ التجربة “الديمقراطية” من التهديد الذي يتمثل في فوز إسلاميي الجبهة في الانتخابات وكان ذلك في 12 يناير 1992م، أي اليوم الموالي لاستقالة الرئيس بن جديد.
إلغاء نتائج الانتخابات وإعلان حالة الطوارئ تلاهما قرار حل حزب جبهة الإنقاذ الإسلامي ومنعه من المشاركة في الحياة السياسية، فترتب عن هذا العبث غليان شعبي أدى إلى عملية كبيرة وواسعة من الاعتقالات، همت خاصة صفوف نشطاء الجبهة حيث تم اعتقال 20 ألف شخص، أودعوا غياهب السجون والمعتقلات، فتتالت الأحداث وتسارعت، والجيش قابض على السلطة يغتال الناس ويتخطفهم، لا يهمه مصلحة البلاد ولا العباد، لتسيل في النهاية دماء الجزائريين وديانا وأنهارا في شوارع المدن والقرى والمداشر فتكون الحصيلة عشر سنوات دامية مات ضحيتها 200 ألف جزائري وفق الإحصائيات الرسمية.
وبعد الانقلاب على نتائج الصناديق، وبعد كل تلك المجازر لم يحظ الجزائريون لا بـ”الديمقراطية” ولا بالأمن وكان المستفيد الوحيد هم جنرالات الجيش الذين لا يزالون على رأس الحكم ينشرون الفساد وينخرون اقتصاد الجزائر ويمعنون في إفقار الشعب وإذلاله.
فكيف كان موقف الدول الأوربية وأمريكا من انقلاب العسكر على “الديمقراطية”؟
وهل انتصرت الدول “الديمقراطية” للتجربة “الديمقراطية”؟
وأين اصطفت الصحافة العلمانية والأحزاب الليبرالية والاشتراكية، بجانب صناديق الاقتراع أم بجانب بنادق الجيش؟
الجواب بالنسبة لتجربة الجزائر هو نفسه ما نعيشه اليوم في تجربة مصر، فالدول الأوربية تؤيد الانقلاب على “الديمقراطية” كلما كان الإسلاميون هم الفائزين، لكن لا تصرح بذلك في العلن، كي تبقى وفية في الظاهر لديمقراطيتها؛ فهي تتقن فن التمثيل على الشعوب والتظاهر بدعم الديمقراطية والديمقراطيين، بينما في الخفاء تدعم وكلاءها -جنرالات الجيش والأحزاب العلمانية- من خلال التعتيم الإعلامي الدولي وبذل الدعم الاستخباراتي، وحتى تحبك التمثيل تسارع في العلن إلى القيام بمبادرات سياسية تدعو في نهايتها إلى الجلوس للحوار الشامل لإخضاع الطرف المنتصر في اللعبة الديمقراطية لصالح الطرف المنهزم في اللعبة الديمقراطية والمنتصر في اللعبة الاستبدادية القمعية، حفاظا على مصالحها الاستراتيجية في بلداننا التائهة، وتكريسا لتبعية اقتصاداتنا لها، وضمانا لأمن حليفها الصهيوني، خصوصا في حالة مصر.
وحتى إذا اضطرت للتصريح، فلا نسمع منها إلا مثل عبارة الساسة الأمريكيين: “الولايات المتحدة غير ملزمة بإطلاق وصف محدد لما جرى في مصر وتلتزم بمواصلة تقديم المساعدات”. لأنها تعلم يقينا أن وصف الحالة بالصدق سيكون في صالح الإسلاميين، وسيؤثر على الرأي العام العالمي، لذا فالأولى الحياد ظاهرا.
وبإجراء مقارنة سريعة بين فصول تجربة الجزائريين مع صناديق الاقتراع، وما يجري في مصر اليوم يتبين أن الأمر يتكرر حذو القذة بالقذة:
نظام عسكر فاسد مفسد، مجوع للشعب محتكر للثروة والسلطة، ممعن في إفقار البلاد وتجويع العباد، حتى إذا هدد الجياع والمقهورون بإسقاطه هرع إلى مخرج “الديمقراطية” كي ينفس الاحتقان الشعبي، ويفك حبل الثورة المحيط بعنقه، فيسمح مكرها بانتخابات، ثم يفوز الإسلاميون بالأغلبية، لتتدخل الدول الغربية في الخفاء وتحرك وكلاءها في البلاد للانقلاب على “الديمقراطية”.
فسواء في الجزائر أو مصر، أبطال المسرحية الديمقراطية وأجواؤها وظروفها ونتائجها لا تتغير بتغير الزمان والمكان:
– ثورة
– انتخابات
– فوز الإسلاميين
– تدخل الجيش
– تسخير الصحافة العلمانية لتشويه الإسلاميين وتأليب الرأي العام ضدهم والتعتيم الإعلامي عن الحقائق
– تحالف القوى الديمقراطية العلمانية مع الجيش
– تواطؤ الدول الأوربية وأمريكا
– دعم الدول الإسلامية للانقلاب على الديمقراطية بالمال وانحيازها إلى صف الانقلابيين.
– إراقة دماء الأبرياء
– الإبقاء على النظام القديم مع إحداث تغييرات شكلية
– إعلان حالة الطوارئ
– فرض الجيش على الشعب القبول بالاستبداد مقابل الأمن
– عودة النظام العسكري والحيلولة دون الشعب وحريته.
فكل هذه العناصر وكل هذه الظروف والأجواء والنتائج تتكرر كلما كان الإسلاميون هم الفائزين.
أليسوا مواطنين كباقي المواطنين؟
أليس من حقهم أن يشاركوا في السلطة؟
لماذا تغيب كل شعارات التعايش والتسامح لدى العلمانيين ويحضر الإقصاء وتهيمن الكراهية ويطغى العنف؟
الجواب سهل جدا: فالديمقراطية للعلمانيين فقط.
ولا غرابة، فما دامت العلمانية هي الأساس الذي تبنى عليه الديمقراطية بالمفهوم الغربي، فمنطقي ألا تقبل بمن يعتقد في تقسيم أفعال الناس إلى حلال أحله الله ورسوله، وحرام حرمه الله ورسوله، ويمنع الخمر واللواط والزنا والربا والقمار، ويُخَلق الفن، ويربي الناس على الفضائل المستمدة من الدين، ويميز بين الكفر والإيمان، فيمنع انتشار الكفر ويضيق على أصحابه، ويعمل على نشر الإيمان ويؤيد أهله، وكل ذلك في نظر العلمانيين قيود على الحرية الفردية التي تمثل المقدس في العقيدة العلمانية.
وإذا ما حصل وفاز الإسلاميون رغم المضايقات الرهيبة التي يُسامونها من طرف نظمهم الاستبدادية، فإن كل الديمقراطيين في الخارج والداخل على أتم استعداد للانقلاب على نتائج الديمقراطية لأنها لم توضع لهم أصلا، ولأن الإسلاميين يتخذونها مجرد آلية للوصول إلى الحكم؛ ومن ثمة التمكين لمعتقداتهم الدينية وشريعتهم المناقضة لحقوق الإنسان بمفهومها الغربي.
ولنتذكر هنا تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق فرونسوا ميتران، عندما قال دون خجل أو حياء، تعليقا على تنامي شعبية الإسلاميين في البوسنة وقربهم من حكم البلاد عن طريق الصناديق الانتخابية: “إن فرنسا لا تقبل أن تقوم دولة إسلامية في أوربا”. فكان أن جيَّش الأوربيون الصرب الصليبيين لإبادة مسلمي البوسنة والهرسك في مذابح جماعية لا زالت ذاكرة العالم تحتفظ بها. وبعد انتهاء المجازر والحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى الحكم، قدموا بضعة أفراد للمحاكمة حتى يظهرون بمظهر العادل خداعا منهم للبسطاء المغرر بهم.
ولنتذكر أيضا تجربة إسلاميي تركيا مع حزب الرفاه الذي فاز في الانتخابات، فكان مصير رئيسه أربكان إلى السجن، بينما تكفل الجيش بحل حزبه واعتقال قادته حفاظا عل علمانية تركيا.
لقد أصبح من قبيل المقطوع به أن استيراد “الديمقراطية” الغربية لعبة تلهي الشعوب بأماني التداول على السلطة، وتقسيم الثروات بالعدل، وتحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها من الأماني الزائفة، في حين يعمل الغرب -من خلال مؤسساته الدولية ومن خلال وكلائه العلمانيين في البلاد الإسلامية ومن خلال هيمنته على المجتمع المدني تأطيرا وتمويلا- على استكمال عملية الإلحاق الحضاري والثقافي والذي تعتبر علمنة الشعوب عمودها الفقري.
فإذا استحضرنا كل هذه التجارب تبين لنا أن الديمقراطية بمفهومها الغربي وصانعيها ومن يستوردها بعجرها وبجرها؛ وكذا حقوق الإنسان بمفهومها الغربي؛ لا ولن تقبل يوما بالإسلام من حيث هو دين ودولة إلا إذا تمت إعادة صياغته حتى يستجيب لمقتضيات العلمانية، ثم بعد ذلك يكون معتنقوه أهلا لخوض غمار المشاركة السياسية.
إذا، فلن يكون الإسلاميون ديمقراطيين إلا إذا أصبحوا علمانيين.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل