لكل مجتمع رموزه الذين يُبوَّؤون أعلى مرتبة فيه، ويمنحون أعلى الأوسمة، وتؤلف حولهم القصص لإبراز مكانتهم القيادية، ويُعلى من مواقفهم وشرف رسالتهم، حتى يترسم خطاهم ويتبع منهجهم ويعتقد في مرجعيتهم وأفكارهم أبناء وطنهم وبنو جلدتهم.
والأمة عندما تكون حرة قوية تملك قرار اختيار قدوتها لأبنائها وفق هويتها، فلا تعلي من شأن أحد إلا إذا كان له من العمل والمواقف ما يخدم تاريخها وهويتها وعقيدتها، وعاش ومات من أجل الدفاع عن قضاياها وتحقيق رفعتها وقوتها بين الأمم.
وعندما تكون مستلبة مهزومة ضعيفة فإن صناعة القدوة لأبنائها يكون بأيدي من استلبها ومن هزمها.
ولكي يضمن المتغلب استمرار استغلاله للشعوب المهزومة واستنزاف ثرواتها، فإنه يعمل بلا توقف على الحيلولة دون أن تمتلك الأمة المهزومة رموزا توقظ أبناءها من غفلتهم، وتوحدهم ليحرروا أنفسهم من التبعية والاستلاب، وغالبا ما يتبع المتغلب في سبيل ذلك مسالك أهمها:
1- مضايقة وتشويه سمعة كل مَن يمتلك مقومات القدوة، وشروط القيادة التي تجعل الناس يلتفون حوله من الصلحاء والعلماء والدعاة، وذلك بترويج الإشاعات الكاذبة، وتجنيد الخصوم له، واتهامه في ذمته ونزاهته، حتى يفقد الناس فيه الثقة أو على الأقل تثار حوله الشبهات، وفي الغالب، لا تعدم الشبهات والأكاذيب من يروجها من المغفلين والجهال والمأجورين والمغرضين، وبهذا يعم الشك والارتياب في كل واحد من الزعامات، فلا يجتمع الناس على رأس واحدة، إذ يصبحون أتباع رؤوس متعددة، أغلبها مجرح عند أغلبها.
2- تنويع صور “القدوات” الفارغة بصرف الأموال الطائلة والدعايات الكبيرة والكثيرة، بحيث تجد في كل ميدان عشرات النجوم المصنوعة، في الرياضة والفن والمسرح والسياسة والفكر والإعلام…، وذلك حتى تتشتت ميولات الشباب وتتوزع بين الآلاف من “القدوات” الفارغة، فيصبح لكل واحد منهم مئات الآلاف من المعجبين والمعجبات، الذين يحاكونه في الملبس والسلوك، ويشغلون أوقاتهم بتتبع أخباره، والاستماع إلى أغانيه إن كان مغنيا، أو متابعة مبارياته إن كان رياضيا، فيملك عليهم حواسهم، فلا يبقى في ضمائرهم ولا في وقتهم مجال للاهتمام بقضايا أمتهم ومتابعة ما يجري من حولهم، بله المشاركة في محاربة الفساد المستشري حولهم، فتضيع سنوات شبابهم في التفاهات والترهات، ولا يهتدون للقدوة الحقيقية بين ملايين “القدوات” الوهمية الفارغة.
3- صناعة القدوة الفارغة التي ينفخ فيها الإعلام بالدعايات الكاذبة والتصريحات المختلقة، فيروج لها في كل نادٍ، وتخصص لها البرامج والمواد الإعلامية حتى تصير ربات البيوت الأميات اللائي لا علاقة لهن بالشأن العام يعرفون القدوة الفارغة بالاسم والصورة لكثرة حضورها في وسائل الإعلام العمومي، ولكثرة ما أُلِّف من قصص حول شخصيتها، حتى يستقر في الأذهان أن تلك الشخصية تمتلك مقومات القائد وتستحق أن تكون قدوة لغيرها.
4- تهميش أو قتل أو سجن القدوة الصالحة التي لا تبغي عن الإسلام بديلا ولا تركع لمساومات المفسدين، والإبقاء على الزعامات التي تتبنى العلمانية منهجا لكونها مستعدة لتقديم التنازلات تلو الأخرى.
فرأينا كيف يقتل أحمد ياسين رحمه الله بصاروخ على كرسيه المتحرك وهو راجع من صلاة الفجر، بعد السنوات الطويلة التي قضاها في سجن الكيان الصهيوني، في حين يمنح عرفات جائزة نوبل للسلام ولا تقبل الدول بممثل للقضية الفلسطينية سواه، وعندما مات الزعيمان أجريت انتخابات تبارى فيها أتباع الرجلين فكان الفوز لأتباع الرجل الذي مثل عند الشعب مقومات الهوية والدين.
وحتى تتم الحيلولة دون أن تخرج منهم قدوة تستحق أن تقود الجهاد من أجل القدس ولا تنكسر أمام المغريات أو التهديدات، تم الانقلاب على الصناديق التي يقدس العلمانيون حكمها، ورجع أتباع عرفات إلى تمثيل شعب فلسطين كرها ليستكملوا مسلسل الخيانة والتنازلات وبيع الأرض مقابل سلامٍ لم يتحقق مع اليهود لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، حتى يتحقق لبني علمان.
رجعوا إلى السلطة بحماية الكيان الصهيوني الذي صب قنابل الفسفور على الأطفال والنساء في غزة، ليحولوا دون وجود قدوة حقيقية للمسلمين في ذلك القطر تجمع الفلسطينيين تحت راية الجهاد لتحرير فلسطين والقدس الشريف.
نفس القصة، نعيشها اليوم بعد موت زعيم جنوب إفريقيا، حيث أراد الغرب من خلال إعلامه ومنظماته أن يسوق لمانديلا على أنه الزعيم الأسطورة، الذي دافع عن قيم الحب والإخاء، وحارب التمييز والتعذيب والقهر، فمسح به بوش السفاح يديه من دم مليونين من المسلمين الأفغان عندما وشحه بوسام «الحرية الرئاسي» في يوليوز 2002، واصفا إياه بـ«رجل الدولة الأكثر احتراما في عصرنا». جزاء له على تأييده لغزو أمريكا لأفغانستان.
صحيح أن مانديلا كان بعد ذلك شديد الانتقاد لغزو أمريكا للعراق، لكن ليس بغضا في الحرب، وإنما لأن أمريكا وبريطانيا خاضا الحرب القذرة الظالمة دون إذن من الأمم المتحدة، فقد صرح أنه كان سيؤيد أي إجراء ضد العراق إذا كان بطلب من الأمم المتحدة.
وعندما تم إعدام صدام حسين رحمه الله تعالى، وعقب ما أحدث الصهيوني بوش من دمار وتقتيل في بلاد العراق الجريح وأهله، وظف هذا الصهيوني اسم “الزعيم” مانديلا مرة أخرى كمنديل مسح فيه وبه صورة العراق المدمر والفوضى التي وصفها بالخلاقة إثر تمكينه للروافض من رقاب العراقيين السنة مقارنا “الوضع في العراق بالوضع في جنوب إفريقيا، ساخرا من غياب زعيم يوحد العراقيين مثل مانديلا، مضيفا: «نيلسون مانديلا مات لأن صدام حسين قتل كل مانديلا عراقي»”.
الأمر نفسه قامت به روسيا أواخر ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي حيث كان مانديلا آخر من وشح بوسام “لينين للسلام”.
فكيف قبل وهو المناضل ضد القهر والحرب والتمييز بأوسمة من رئيسي دولتين قتلتا الملايين من البشر؟ لا سيما أن لينين الذي وُشِّح مانديلا بوسام يحمل اسمه، هو مجرم سفاح قتل الملايين من مسلمي أوربا الشرقية.
إنها الشهرة التي حذره منها الشيخ أحمد ديدات رحمه الله تعالى، عندما رأى استغلال الكل لكفاح مانديلا وتاريخه، فنصحه ألا يتحول لنجم سينما وألا يفتح بلاده على نموذج الغرب فيفسد قومه من الأفارقة.
لكن مع الأسف كانت آلة التطويع الأمريكية أقوى من نصيحة الشيخ ديدات، فتمت عولمة الزعيم الاشتراكي.
عولمة الزعيم مانديلا تخفي وراءها قصة الزعامات العلمانية التي تقبل بالهيمنة الغربية والأمريكية الرأسمالية مع الاكتفاء بالنقد الذي لا يضر العدو بل يضفي على المجرم المنتقَد فضيلة قبول النقد والتسامح مع المخالف.
كما ترمي عولمة زعامة مانديلا العلماني إلى إخفاء زعماء إسلاميين جنوب إفريقيين قدموا لبلادهم ربما أكثر مما قدم مانديلا، الذي اعترف بنفسه في كتابه “مشوار طويل للحرية” أن مسلمي جنوب إفريقيا وكيب تاون بالذات سبقوه للنضال ضد العنصرية، وزار قبر الشيخ عبد الله هارون، الذي مات في سجون العنصرية بعد 30 عاما من التعذيب والتضييق، تفوق الـ 27 عاما سجنا التي قدمها مانديلا بثلاثة أعوام.
لا أحد ينفي أن مانديلا كان ولا يزال قدوة ورمزا لكن ليس لنا نحن المسلمين، بل لقومه ومن على عقيدته ومرجعيته، إذ لا يستقيم من الناحية العقدية والسلوكية التربوية أن نغالوا في الإشادة به ونعلي من شأنه، حتى لا تضيع كل المفاهيم الإسلامية التي إن كانت تفرض علينا القول بالعدل والإنصاف في حق من يخالفنا العقيدة والدين، فهي تأبى علينا الخروج بها عن حدودها، وتجاوز قدر الإنصاف مع المخالف، إلى معنى التلميع الذي يغرر بالمسلمين ويجعلهم يسوون في المودة والاحترام بين المسلمين والكفار، فتصبح عقيدة الولاء والبراء غارقة في برك التضليل والالتباس فيختلط الحق بالباطل، فهذا دأب من حرفته إلباس الباطل لبوس الحق، من اليهود والنصارى والمنافقين من العلمانيين.
إن موت مانديلا وما استتبعه من مواقف وتعليقات وصلت حد الغلو والإفراط، هو من قبيل الأحداث التي تظهر للعاملين في سبيل نصرة الدين والحفاظ على مقومات الهوية، أن حجم العمل والتضحيات التي تنتظرهم من أجل الإصلاح كبير وكبير جدا، حتى يستطيعوا محاربة البلبلة الفكرية والاضطراب النفسي، والاغتراب المستحكم في نفوس النشء، ومكافحة الجهل والبدع والانحرافات العقدية والتخلف والتبعية.
كما تجعلهم يدركون أن أزمة الأمة تكمن في انعدام القدوة التي يتأسى بها هذا النشء حتى لا يتيه في زمن البطولات الفارغة، قدوة تضع للناس معالم الطريق التي يجب أن يسلكوها لإرجاع المجد الضائع والحق المسلوب.
أقول هذا وأنا أستحضر أن مثل هذه المفاهيم الدقيقة لا تبلغها عقول الناس ذوي المعرفة الضعيفة بحقيقة ما يعيشه المسلمون من ضياع، ولا تستوعبها أفهامهم، خصوصا إذا ما قُدِّمت لهم حالة كونهم متأثرين بتضليلٍ وتلبيس أو منبهرين بتلميع وتقديس، بل تدفعهم قوة التضليل والتلبيس وسحر التلميع والتقديس إلى رفض الحق ورده، لضعفهم في حالتهم تلك عن تصور الحق بمعزل عما سطا على نفوسهم من صور مضللة وأفكار ملبسة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب