منذ أزيح المسلمون عن دفة قيادة العالم وهم يتقهقرون إلى أن احتلوا آخر الدرجات بين الأمم، فصاروا يتأثرون ولا يؤثرون وتقرر مصائرهم وهم ينظرون، وتستباح مقدساتهم وأراضيهم وأعراضهم ولا يتحركون، أصابهم الوهن حتى بلغ منهم النخاع.
كانت أهم محطات تخلف الأمة وذلها تلك الحروب التي خاضتها نيابة عن عدوها، ومشاركتها في معارك كان الرابح فيها الغرب والخاسر الوحيد المسلمون، فبعد الحرب العالمية الأولى والثانية، تمزقت الأمة بين معسكر شرقي شيوعي/اشتراكي ومعسكر غربي رأسمالي امبريالي، ليكون أبناؤها مرة أخرى جنودا يقاتلون في حرب باردة خسرت فيها هويتها، وتقاتل فيها أبناؤها، ودنست مقدساتها، بينما كان الرابح الوحيد هو الغرب الذي لم يمهلها كي تنفض عن وجهها غبار الحروب السابقة، حتى زج بها في حرب الخليج الأولى، تلاها حصار دام أكثر من عقد من الزمن، لينتهي باحتلال عسكري مباشر لأفغانستان والعراق، وتدمير لشعوب إسلامية واغتيال للعقول المسلمة في مختلف التخصصات.
ولعل آخر هذه الحروب التي يجبر المسلمون على خوضها ضد أبنائهم ومصالحهم لصالح الغرب، تمثلت في ما أطلقت عليه أمريكا الحرب العالمية على الإرهاب، فمنذ إسقاط الويلات المتحدة للإتحاد السوفيتي ولا كلام للغرب إلا على الخطر الأخضر، أي الإسلام الذي يعتبره المنظرون للسياسة الخارجية الأمريكية أهم من الخطر الأحمر. وبعد الحادي عشر من شتنبر 2001، وجدت الإدارة الأمريكية الحجة لتشن حربا عسكرية على عدو غير معروف المعالم اسمه الإرهاب، ألصق زورا بالإسلام.
ولن ينس العالم التصريح الذي أدلى به الرئيس الأمريكي السابق بوش الصغير، والذي هدد فيه أنه سيشن حربا صليبية مقدسة ضد من استهدفوا بلاده.
وحتى لا تؤثر كلمتي: “صليبية” و”مقدسة”، جيشت الأقلام وسودت المقالات حتى تفسر الكلمتان تفسيرا يبطل مفعول أي حمولة عدائية يمكن أن تحرك الشعوب الإسلامية.
لقد حاول الغرب دوما أن يلعب على إذلال الشعوب الإسلامية مع الحفاظ على حالة الغفلة أو قل الغيبوبة التي استؤنفت بعد خروج الاحتلال من بلدانهم، بعد النكبات والنكسات والهزائم.
فرغم أن تاريخ الغرب مع المسلمين، خصوصا التاريخ الحديث، كله شاهد على احترافية الإرهاب وتشجيعه، إلا أنه استطاع بفعل العلمنة -التي استنبتها خلال مدة احتلاله للبلدان الإسلامية ورعاها بعد ذلك بالحماية والضغوط على الحكومات- أن يحسن صورته من خلال تغيير القناعات، فالمحتل الكافر كما كان يُنعت في خطب المقاومين له، أصبح في برهة من الزمن صديقا يجب في حقه الحب والتعايش، في حين أن الجيل الذي عاش العذاب والمهانة والاحتلال والاغتصاب والتعذيب على يده لا يزال على قيد الحياة.
لقد صار من لا يزال متشبثا بفكر المقاومة والممانعة ضد إرث المحتل ولو كانت المقاومة والممانعة فكرية فقط، يلمز بالإرهاب والتطرف والتزمت، وينبز بكونه صاحب ثقافة تحض على الحقد وكراهية الآخر.
هذا الآخر الذي يفرض علينا أن نخوض حربا ضد أوطاننا وأبنائنا، فنقتل أنفسنا بأيدينا حتى نقنعه أنا نؤازره في حربه على الإرهاب.
فمن يرهب من؟
لماذا لا تحتج حكومات البلدان الإسلامية على تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية منظمات إرهابية؟
ورغم ذلك يحلو للعلمانيين أن يتحدثوا عن نبذ العنف والكراهية، ويدعون إلى حب “الآخر” ونبذ الحقد عليه رغم أن الدوافع إلى ذلك كثيرة ومنها أنه يسمنا بالإرهاب وينعت ديننا بأنه دين الإرهاب، ومنها أنه يستعمر أرضنا ويدنس قدسنا ويهتك أعراضنا.
لكن لماذا لا يطلب العلمانيون بالمقابل من هذا “الآخر” أن يصنف الأحزاب المتطرفة كحزب الليكود وحزب شاس في الكيان الصهيوني ضمن خانة الإرهاب رغم أن منشأها إرهابي باتفاق العالم بأسره؟
لقد كان شعار منظمة “ايرغون” هو: “اليهودية انتهت في الدم والنار وستحيا بهما”، وكان أحد قادة هذه المنظمة “اسحاق ايزيرتينسكي” البولوني الأصل الذي هاجر إلى فلسطين أيام الانتداب البريطاني عام 1937، ثم تولى رئاسة تجمع الليكود والذي عرفه الجميع باسم “اسحاق شامير” والذي وصل إلى المناصب العليا في دولته من خلال المنظمة المذكورة، وبعد هذا كله يجازى على تاريخه بجائزة نوبل للسلام.
من هنا يتبين أن مفاهيم السلام والحرب ومفهوم الإرهاب تختلف من بلد لآخر ومن شعب لآخر، ولا يمكن التواطؤ على مفاهيم مشتركة لهذه المصطلحات، فكيف ننخرط في الحرب على الإرهاب دون أن نعي مفهومه، فربما احتجنا إلى فكر رجال المقاومة الذين كانوا يحركون الناس للدفاع عن الدين والعرض والوطن انطلاقا من قاموس المصطلحات القرآنية التي نطالب تحت الإكراه بقراءة جديدة لها.
فلن نجني من الحرب العالمية على الإرهاب أفضل مما جنينا من الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم