في الوقت الذي اتفقنا في هيئة التحرير بالجريدة على إدراج تعليق في مواد العدد الحالي على أحد البرامج الوثائقية للقناة الأولى، بسبب تضمنه تلميعا لنظرية داروين الإلحادية بشكل يحث على اعتقادها حقيقة علمية لا تقبل التشكيك، تفاجأنا بخبر تنظيم معرض “داروين الآن” بمدرسة الإمام الغزالي وذلك ضمن الفعاليات الثقافية التي يقوم بها المجلس الثقافي البريطاني بشراكة مع جمعية مدرسي علوم الحياة والأرض وبدعم من نيابة وزارة التربية الوطنية بالمحمدية، وسيستمر المعرض إلى غاية 28 فبراير الجاري، ويعتزم المنظمون نقل المعرض بعد ذلك إلى المؤسسات التعليمية بمدينة الدار البيضاء.
ويندرج هذا النشاط ضمن حملة بريطانية تستهدف المغرب من بين 50 بلدا عبر مختلف القارات، تشمل معرضا في المدارس ومعرضا آخر متنقلا، وموقعا إلكترونيا وورشات دعم حول نظرية “شارلز داروين” في أصل الأنواع وهو برنامج سيمتد على طول سنة كاملة.
وحسب قصاصة لوكالة المغرب العربي للأنباء، صرح “آدام لادبوري” مدير المجلس الثقافي البريطاني معلقا على نشاط المعرض: “إن الغاية من هذا المعرض تتمثل في السعي إلى إشاعة الثقافة العلمية خاصة لدى فئة الشباب”.
إن إقامة مثل هذا المعرض في المؤسسات التعليمية المغربية يظهر بكل وضوح التسيب الذي يعرفه هذا القطاع من جهة، ويعطي الدليل القاطع على أن حماية عقائد المغاربة لم يعد من أولويات مسؤولينا، وذلك خلافا لما عليه الأمر في الدول الأوربية التي تدعي ضمان حق الإنسان في المعرفة.
فكيف تتعامل الدول الغربية مع نظرية الخلق الإسلامية؟
معلوم أن الدول الغربية تصر على حماية هذه النظرية من الزوال لكونها تمثل أس هويتها العلمانية، ففرنسا المتشددة مثلا حرمت تلامذتها وطلبتها من الإطلاع على كتاب “أطلس الخلق” الذي وجهه المفكر المسلم هارون يحيى سنة 2007م إلى المؤسسات التعليمية الفرنسية، حماية لعقيدتهم المادية العلمانية من الغزو العقدي الإسلامي.
وصل “أطلس الخلق” إلى فرنسا، فأحدث ضجة عارمة آنذاك جعلت وزارة التربية والتعليم الفرنسية تعمم منشورا على جميع أنحاء البلاد، تحذر فيه من وجود “نظرية إسلامية عن الخلق” تناقض “نظرية داروين”!
ونقلت وكالة الأنباء البريطانية “رويتز” يوم 03 فبراير 2007م تصريحا لمسئولة بوزارة التربية والتعليم الفرنسية قالت فيه: “طلبنا منهم -تقصد مديري المدارس- الاحتراس لأن هذا الكتاب يتناول نظريات لا تتماشى مع ما يتعلمه الطلبة، تعليمنا يعتمد على نظرية النشوء والارتقاء، هذه الكتب ليس لها مكان في مدارسنا”.
فكيف رفضت فرنسا بلد التنوير أن تشمل رفوف خزانات مؤسساتها التعليمية كتابا يحمل نظرية الخلق خصوصا أن صاحبه دعمه بالنظريات الحديثة التي تفند صحة نظرية داروين وتقوض أركانها، كما أرفقه بصور تثبت أن الأنواع الحيوانية الحالية تبدو مماثلة تماما لحفريات أجدادها؟
وكيف استطاعت فرنسا بلد التعايش أن تحرم أبناءها من الاطلاع على كتاب علمي لمجرد أنه يخالف نظرية تدرسها في مؤسساتها؟
أين ذهبت دعاوى الحق في الاختلاف؟
إن كل كلام عن حماية الحق في المعرفة أو عن صيانة الحق في الاختلاف، وأي حديث عن كفالة الحقوق الفردية يصبح غير ذي معنى، إذا ظهر لساسة الغرب أن ممارسة تلك الحقوق قد تمس بالهوية العلمانية للمجتمعات الغربية، وهذا بالضبط ما وقع في قضية الحجاب والنقاب والمآذن.
فإذا كان الغرب ينتهك يوميا الحق في الحياة بالنسبة لآلاف المسلمين في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين، لمجرد خوفه من تنامي المد الإسلامي الذي يعتبره أخطر شيء على وجوده وأمنه، فكيف ننتظر منه أن يكفل الحق في المعرفة والحق في الاختلاف.
إلا أننا مع ذلك قد لا ننزعج من ممارسة الدول الغربية لحقها في صيانة هويتها وحمايتها لعقيدة أبنائها، فكل الدول، المفروض فيها أن تضطلع بهذه الوظيفة، لأنه من أهم مسوغات وجود الأنظمة. لكن ما يزعجنا ويقض مضاجع المغاربة هو هذا التسيب المسمى الانفتاح، المرادف للانبطاح الذي ما ترك مقدسا إلا حاول تدنيسه ولا قيمة إلا أهدرها، ولا خلقا إلا استهتر به.
وقد يتساءل البعض لماذا لم يتحرك المسؤولون لحد الآن لمنع هذا النشاط البريطاني الإلحادي الذي يستهدف عقيدة أبنائنا؟
الجواب باختصار لأنه يتماشى بل يتطابق مع قناعات الكثير من مسؤولينا خصوصا في قطاع التربية والتعليم، وذلك لأن نظرية النشوء والارتقاء وكل النظرية المادية التي تعادي الحقيقة الدينية المطلقة، المؤمنة بوجود إله خالق للكون، هي الأساس الذي بنيت عليه العلمانية التي تعتبر الرافعة الأساسية للديمقراطية وما يستتبعها من مبادئ وأفكار وفلسفات تضع الإنسان مكان الله عز وجل.
فإذا آمنت أوربا العلمانية بنظرية الخلق معناه أنها أقرت بخالق للكون والإنسان، مبدع لنظمه، مسير لنواميسه مهيمن على قوانينه، ومن ثمَّ وجب عليها أن تعود إلى الإيمان بالدولة التي تحكم باسم الله وليس باسم الإنسان، ولزمها أن تتخلى عن كل النظريات المادية المؤسسة لعلمانيتها، وأن تقوم بتعديل كل قوانينها ولوائحها، بدْءًا بإعلانات حقوق الإنسان ومرورا بمفهوم المواطنة، وانتهاء بقوانينها الوطنية الجنائية والمدنية، وذلك حتى تستجيب لشريعة الله الخالق للإنسان والكون المستحق للعبادة، ومن أعظم مظاهر العبادة تطبيق شرعه حتى تسير الحياة فوق الأرض كما أراد رب الأرض والسماء سبحانه.
هذا ما يرهب فرنسا من ظاهرة انتشار المظاهر الإسلامية في بلادها، وهذا ما يخشاه العلمانيون في المغرب من تزايد الملتزمين بتعاليم الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلَامَ، وَذُلا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ” رواه أحمد (16344) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/السبيل