كل أمة تروم الحفاظ على خصوصياتها، لا تتساهل في حماية مرجعيتها الدينية أو “الفكرية” لكون هذه الأخيرة هي الأساس الذي تُبنى عليه باقي مقوماتها، فبالنسبة لفرنسا رأينا كيف حافظت على خصوصيتها عندما حاربت الحجاب والنقاب من خلال حمايتها لمرجعيتها الفكرية المتمثلة في علمانيتها المحفوظة دستوريا، ورأينا كيف منعت تداول كتاب أطلس الخلق من خزانات مؤسساتها التعليمية بعدما استطاع مؤلفه هارون يحيى إرساله إلى العديد منها، دون أن تعير أي اهتمام في الحالتين لما تدعيه من تقديس لحرية الإنسان في ممارسة دينه، وحقه في المعرفة.
أما بالنسبة إلينا نحن المسلمين فمرجعيتنا الفكرية هي عينها مرجعيتنا الدينية، حيث لا يمكن تصور فكر إسلامي إلا إذا انبثق عن أصول ديننا، وحماية هذه المرجعية هي أساس حماية خصوصياتنا، وما هذا الاضطراب في الساحة الفكرية والاجتماعية والسياسية.. إلا نتيجة من نتائج التساهل في حماية المرجعية الدينية.
ولعل من أبرز أصول هذه المرجعية إيماننا بالله خالقا ورازقا ومشرعا، وإيماننا أن حياتنا فوق الأرض سيعقبها انتقال إلى حياة أخرى بعد الحساب يوم العرض، ومن أصولها أيضا اعتقادنا أن الإنسان عبد لله مربوب له، وأنه سبحانه لم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسولا من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، ومن أصولها كذلك إيماننا أن الكون ملك لله يتصرف فيه ويدبره كيف يشاء، لا سلطة لأحد عليه ولا شريك له فيه.
هذه الأصول هي التي تشكل تصور الإنسان المسلم للكون والإنسان والحياة، وهي التي تجعله يمتنع عن الكثير من السلوكيات ويحارب الكثير من المعتقدات التي صح عنده أنها مخالفة لتعاليم دينه، فإذا كنا نروم فعلا الحفاظ على الخصوصية المغربية فعلينا أن نعيد النظر في كثير من المفاهيم والمعتقدات التي تسربت إلى بنيتنا الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية، من جراء التساهل في حماية مرجعيتنا الدينية من جهة، وبسبب تسلط المفاهيم العلمانية على مجالات “التشريع” والاقتصاد والتعليم والسياسة.
هذا التسلط مكن للتصور العلماني حول الكون والإنسان والحياة، فأصبح العديد من الناس علمانيي التفكير دون أن يعوا أنهم كذلك، فأصبح بعضهم يحارب التزام أبنائه مثلا ظنا منه أن الدين مسألة قلبية لا تستوجب الوقوف عند حدودٍ تقيّدُ المتعة، ولا تستدعي الخضوع لتكاليف تحد من حرية الإنسان، ومنهم من يمنعك من أن تدعو الناس إلى الالتزام بتعاليم الدين اعتقادا منه أن التدين مسألة شخصية ومن تم يعتبر أن إنكار أي منكر أو أمر بأي معروف هو تدخل في هذه الحرية وانتهاك لها. فأصبحنا كما هو الحال في بلاد الغرب العلمانية منقسمين إلى مسلمين مطبقين لتعاليم الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحجاب مجتنبين للخمر والربا والقمار، ومسلمين غير مطبقين تاركين للصلاة مفطرين في رمضان أكالين للربا شاربين للخمر.
إذًا نحن اليوم أمام تدافع فعلي بين التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان المستمد من مثل قول الله تعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ”الروم.
وقوله تعالى: “قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” البقرة.
والمبني على أساس قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ” البقرة.
فهذا التصور مؤسس على نظرية الخلق الإسلامية المناقضة لنظرية التطور الداروينية الإلحادية، فالأولى تؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا رسولا، أما الثانية فلا تؤمن بالغيب وترفع شعار لا إله والحياة مادة، وتعتبر الإنسان سيد نفسه بلغ رشده ولا يحتاج لوصاية من أحد، ولا لتسيير من أي جهة كانت خصوصا إذا تعلق الأمر بالشرائع الإلهية، وهذه العقيدة الإلحادية هي الأساس الذي تنبني عليه الحضارة الغربية المادية اليوم وهي المؤطر لثقافة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا.
وبناء على ما سبق يجب علينا إذا كنا فعلا نروم أي إصلاح أن نعيد النظر في مقررات ومناهج التعليم وأن نضبطها وفق التصور الإسلامي وأن نراجع منظوماتنا القانونية والثقافية والسياسية، هذا إذا كنا فعلا صادقين في دعاوى الحفاظ على الخصوصية المغربية التي لا خطر يهددها مثل خطر العلمانية.
وصدق الله سبحانه عندما حذرنا في سورة النساء بقوله الكريم: “يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً، يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً”.
ومن يعلم معتقدات العلمانيين لا يشك أنهم متبعون للشهوات معادون للتعاليم الشرعية، فلنحذر ممن حذرنا الله منهم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
السبيل