لماذا حركت النيابة العامة الدعوى بخصوص قبلة القاصرين بالناظور على الفيسبوك، وغضت الطرف عن قبلات البالغين في الرباط أمام البرلمان؟
ولماذا لا تأبه بالأفلام المغربية التي يدعمها نور الدين الصايل بالمال العام في المركز السينمائي المغربي رغم تضمنها للصور الخليعة والمخلة بالحياء العام والخاص وبالدين الإسلامي وكل الأديان؟
لماذا لا تعتقل النيابة العامة مئات المغاربة الذين يرتادون الشواطئ العامة في عري شبه كامل مخل بكل الآداب وبكل الأعراف؟
لماذا لا تعتقل أرباب الملاهي الليلية التي لا تخلو في كل سهراتها من العري والفجور والإخلال بالآداب العامة؟
لماذا لا تعطي النيابة العامة جانب الأخلاق والآداب العامة الأولوية اللائقة بها في مجتمع مسلم؟
كلها أسئلة عميقة الدلالة أثارتها قضية قبلة الناظور.
وربما إذا استطردنا في سرد الأسئلة التي تتخلف فيها النيابة العامة عن القيام بدورها في حماية الدين والأخلاق والآداب العامة لمجتمعنا، احتجنا إلى إطالة لا تستوعبها هذه المقالة، لكن المقصود هو أن نوضح أن تحريك الدعوى العامة من طرف النيابة العامة في حق قاصرين بسبب صورة لهما يتبادلان فيها قبلة نشرت في موقع للتواصل الاجتماعي، بعد تقديم شكاية في الموضوع من طرف منظمة حقوقية ضعيفة الحضور، وما تلاها من احتجاج علني بالقبل من طرف بالغين أمام البرلمان وتحت تغطية وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية، أعقبها تخصيص برامج خاصة للقضية تنحى منحى التأييد وشجب المتابعة، كل ذلك ينبئ أن افتعال الموضوع والضجة المصاحبة له، كانت نتيجته الدفع بالنقاش حول الحريات الفردية في اتجاه الانتصار للنظرة العلمانية للدين والأخلاق، التي تتماشى مع القانون الفرنسي الذي يعتبر المصدر الأساسي للقانون الجنائي المغربي.
وإلا لماذا تحرك النيابة العامة دعوى تعلم يقينا أنها ستخسرها، وأنها ستثير جدلا مجتمعيا سيحسم لصالح العلمانيين نظرا لضعف النصوص الحامية للأخلاق والآداب العامة؟
فهل كان هذا الافتعال مقصودا لهذه الغاية؟
أم هو إعمال بريء للمساطر؛ استغله العلمانيون نتيجة لتغلغلهم في مراكز القرار وهيمنة مرجعيتهم العلمانية على المنظومة القانونية المغربية؟
قضية القبل أظهرت بما لا يترك مجالا للشك أن وظيفة حماية الملة والدين أصبحت جد عسيرة في ظل الإلحاق الحضاري للمجتمع المغربي بالثقافة الغربية، وفي ظل الهيمنة العلمانية التي اكتسحت كل المجالات الفنية والتربوية والتعليمية والتشريعية والسياسية والاقتصادية، بحيث يتساءل المرء هل بقي للملة والدين معنى رسميٌ في المغرب؟
أم أنهما تركتا للأفراد يحمونهما كما يحلو لهم حسب مرجعياتهم وتصوراتهم ووفق إمكانياتهم وقدراتهم؟
إننا عندما نطرح هذه التساؤلات لا نبغي من وراء ذلك التهويل أو المزايدة، وإنما هي تساؤلات تحتاج إلى نقاش جدي يتناول بالخصوص الإجابة عن حقيقة الاتجاه الذي يريد المغرب أن يسلكه؟
فهل المغرب دولة إسلامية؟
أم دولة علمانية؟
أم هو خليط هجين بين علمانية فعلية مهيمنة نافذة في كل المجالات، مع نهج تدبير للدين والتدين يستجيب لمقتضيات دولة ليبرالية علمانية من حيث النظم، إسلامية من حيث الهوية والتاريخ؟
فإذا كنا في دولة علمانية فلا مجال للكلام عن الملة والدين إلا على مستوى الأفراد، ويجب أن تلغى كل القوانين التي تتحدث عن الملة والدين والأخلاق والمؤسسات التي تحميها، وتلك التي تحرم الزنا والشذوذ وتزجر على مخالفة الآداب العامة والإخلال بالحياء، وتلك التي تعاقب على السكر العلني، وعلينا أن ننظم الخمور بما يتماشى مع النظم العلمانية ونقنن البغاء ونفرض على البغايا الضرائب، وأن نلغي ما تبقى من أحكام الدين في مدونة الأسرة، ونلغي الأوقاف ووزارتها.
وإذا كنا دولة إسلامية فالحماية الحقيقية للملة والدين فيها، تتم من خلال تفعيل دور المؤسسات التنفيذية والقضائية والتشريعية والتربوية والتعليمية في تلك الحماية حسب اختصاصات كل منها، وأن تعتمد الشريعة الإسلامية في سن كل القوانين كأساس ومنطلق وإطار، لكن الواقع يبدي للجميع أن تلك المؤسسات تخضع في عملها لقوانين مستمدة من القانون الفرنسي الذي هو ثمرة تفاعلات وتطورات مجتمع حسم مع الدين والتدين، وتبنى العلمانية الشاملة نظاما ومنهجا.
فتحكيمنا لتلك القوانين دون ملاءمتها مع الفقه المستمد من شريعة الإسلام نتج عنه عدم قدرة تلك المؤسسات على حماية منظومة الأخلاق -التي هي قاعدة الدين- من التفكك والاضمحلال، وعدم استطاعتها الحفاظ على العقيدة الإسلامية -التي هي أساس الملة- من شبهات العلمانيين والملحدين.
واقعنا يشهد ويدل كلما أثير النقاش حول قضايا الحريات الفردية أن ماهية الدولة عندنا -كما قلنا- خليط هجين بين علمانية فعلية مهيمنة نافذة في كل المجالات مع تدبير للدين والتدين بشكل يستجيب لمقتضيات دولة ليبرالية علمانية من حيث النظم، إسلامية من حيث الهوية والتاريخ، الأمر الذي تبقى معه منظومة الأخلاق ومقومات الملة والدين معلقة في الهواء تتعرض لكل عوامل التعرية والنحت، وتخضع لأبشع عمليات التطوير القسري.
فعندما نعلق العمل بكل مقتضيات حماية الملة والدين والأخلاق ونفصل كل مناحي الحياة العامة عنها، وحين ننزع عن الملة والدين والأخلاق صفة الإلزام ونجعلها اختيارية، لا يعاقب القانون على مخالفتها، وإن عاقب نصا لا يعاقب فعلا في الواقع. وعندما نسمح بالمقابل للعلمانية أن تنظم كل مجالات الحياة وتعيد صياغة أذواق الناس وميولاتهم عبر التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة والفن.. عندما تفعل الدولة ذلك تكون هي من تخضع منظومة الأخلاق للإبادة، وتُخضع الملة والدين للتطور بالمفهوم العلماني للكلمة والذي يعني إخضاع الدين للتطور الاجتماعي، دون اكتراث بمخالفة هذا التطور للشريعة أو الفقه أو الأخلاق.
فالقانون في المرجعية العلمانية يجب أن ينظم الواقع وفق مراد الناس لا وفق مراد رب الناس، فلا دخل للدين في السياسة ولا في القانون ولا في الاقتصاد ولا في الفن، ومكانه عندهم لا يتجاوز جدران المساجد مع المراقبة الصارمة لما يخرج من أفواه الوعاظ والمرشدين.
نعلم جيدا أن الانتصار للمرجعية الإسلامية، وخيار الرجوع إلى الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي ومؤطر ومعياري في سن القوانين وتنظيم الحياة العامة، صعب على الدولة خصوصا في ظل الهيمنة الغربية وتدخلاتها في توجيه الدول والشعوب، لكن تبني الجهات الرسمية لوضع ملتبس مع انعدام الإرادة السياسية للخروج من حالة الالتباس، أمر يبعث على القلق وينذر بتفكك وصراعات عظيمة في العقود المقبلة، وما الوضع في مصر عنا ببعيد.
لذا، من الواجب على كل الفاعلين السياسيين التفكير في سبل الانعتاق من الهيمنة الغربية التي تفرض علينا التبعية الثقافية والسياسية والاقتصادية للدول المهيمنة، كما يتحتم عليهم وضع استراتيجيات وخطط تأخذ بعين الاعتبار هوية البلاد الدينية والتاريخية ورغبة غالبيته في رد الاعتبار لهذه الهوية على مستوى تدبير شؤون البلاد.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب