الإفساد والإصلاح.. والتعديلات الدستورية

ماذا بعد سقوط الحاكم؟ سؤال يطرح نفسه بإلحاح، لكن لا أحد يخوض في إجابته، رغم أن كل الذين يرومون التغيير يعلمون أن الإصلاح لا يكمن فقط في استبدال حاكم بآخر.
نعم.. فساد الحكام له أثره البالغ في حال الشعوب، فالأمن والاستقرار مع العدل والإنصاف، والرقي والازدهار رهينان بإخلاص الحكام لرعيتهم وأمانتهم في تدبير ثروات بلدانهم، بينما الخوف والاضطراب مع الجور والظلم، والتخلف والفقر مع الخيانة والاستئثار.
فلا أحد يجادل في وجوب محاربة الفساد والمفسدين ونزع آليات الإفساد من أيديهم، ولا أحد يجادل في أهمية إصلاح الحكم وأجهزته، لكن ما نشكو منه اليوم ليس هو فساد الحكام فقط، وإنما نعاني من فسادٍ مركب، فساد تخلل كل بنيات المجتمع حكاما ومحكومين، فساد انتشر حتى عمّ الإدارات والأحزاب وشرائح عريضة من المجتمع، فساد اتسعت رقعته وطال أمده فأحدث اختلالات واضطرابات استعصى معها الادعاء بوجود حل واحد يُصلح ما تراكم من دمار عبر عقود من الإفساد الممنهج.
فعندما نعلن رسميا إفلاس التعليم، وعندما يستشري الفساد في أغلب الأحزاب وتتعفن أجهزة القضاء وتتفكك الأسرة وتتم “علمنة” الإعلام، ونبني اقتصادنا على الربا والقمار ورسوم الخمور ومداخيل السياحة الجنسية، وتعطى الأبواق للسفهاء والفاسدين، وتكمم أفواه العلماء، وتغلق دور القرآن، ويلغي دور منبر المسجد من السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتعطل الرقابة الحقيقية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فهل -والحالة هذه- تفي بالغرض مجرد إصلاحات دستورية؟
إن الإصلاحات الدستورية هي مجرد جزء ضئيل من الآليات التي يتطلبها مشروع الإصلاح، الذي يقتضي أول ما يقتضيه إرادة سياسية صادقة في المضي قدما نحو تطبيق خطة إصلاحية محكمة، تقطع تدريجيا مع المفاهيم العلمانية، وتنفتح على الشريعة الربانية، وتُحِلُّها من التعليم والتشريع محل الصدارة، وتزجر الفاسد وتشجع الصالح، وتقرب الأمين وتكرمه، وتبعد الخائن وتهينه.
فكيف نروم الإصلاح إذا احتفظنا -مثلا- بالنافذين الاستئصاليين الفاسدين من حولنا؟
كيف نكون صادقين في نية الإصلاح إذا استمر هذا الإقصاء الممنهج للأطر المستقيمة على دين الله، لأن النافذين الفاسدين الاستئصاليين لا يعجبهم أن يروا أصحاب اللحى وصاحبات النقاب والحجاب في مراكز القرار، أو لأن ذلك قد لا يرضي الاتحاد الأوربي أو أمريكا؟
الإصلاحات الدستورية وإن كانت مطلبا ملحا إلا أنها لا ترقى حسب المعلن عنه إلى تطلعات الشعب المغربي المسلم الذي تمثل الفئة الصامتة منه -جراء القمع المزمن- أغلبية تحتاج إلى تأطير واستنفار كي تسمع صوتها.
ثم لنلقي نظرة حول ماهية الصلاح والفساد نفسيهما، مادام الكل يرفع شعارات الإصلاحات، فهل كل الأطياف والتيارات متفقة على ماهية الفساد الذي ينبغي تغييره، والإصلاح الذي يجب تحقيقه، منسجمة في الرؤية والمرجعية والأهداف، أم أن الأمر على النقيض من ذلك؟
إن الواقع يشهد أن ما تعتبره التيارات العلمانية -على سبيل المثال- حقا فرديا أو حرية شخصية تجب حمايتها، تنظر إليه التيارات الإسلامية على أنه من الموبقات التي تجب محاربتها ومن الفساد الذي يلزم المسلم تغييره.
الأمر نفسه يشمل ملف حقوق الإنسان فكل التيارات الإسلامية ترى وجوب إخضاع هذه الحقوق لمقومات الهوية والدين الإسلامي، في حين تذهب التيارات العلمانية إلى حد إلغاء كل مقومات الدين والهوية وكل عناصر الخصوصية المغربية إذا تعارضت مع حق من حقوق الإنسان، بل تطالب بدسترة مبدأ أولوية القوانين الدولية حين التعارض مع القوانين الوطنية وجعلها المرجعية الأسمى للمغاربة.
صحيح أن اللعبة السياسية من التعقيد بحيث يجد كل واحد فيها ما يعطيه الأمل في تطبيق نظرته وبرامجه، والاستمرار في نضاله من أجل تنفيذ مشاريعه، لكن المقطوع به هو أن اللاعبين السياسيين على يقين من أن الفساد يمكن أن يلبس لبوس القانون ويأخذ قوة الإلزام لصدوره عن برلمان منتخب من طرف الشعب، فالربا والقمار والخمر رغم كونها حراما فقد أخذت حصانتها وقوتها من القوانين الصادرة عن البرلمان، وربما مع الاحتفاظ بجملة ” احترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليه دوليا” يصبح لدينا كما في بلدان الغرب دعارة مقننة وزنا منظم ما دام ذلك يدخل في الحقوق الفردية والحرية الشخصية.
لهذا نرى أن التيارات الإسلامية حين تقف إلى جنب العلمانيين المتطرفين أمثال خديجة الرياضي وعبد الحميد أمين وأصحاب حزب اليسار الموحد ومن على شاكلتهم، تخطئ خطأ تاريخيا ينضاف إلى أخطائها العقدية والمنهجية، فالإصلاحات الدستورية ستجرى في غيابهم، وبدل أن يعملوا على الضغط من أجل دسترة مطالب تحد من التغلغل العلماني في الدستور، وتضمن احترام الشريعة الإسلامية وتفعيل مقومات الهوية الإسلامية، نراهم يضيعون الوقت في التنسيق مع غلاة العلمانيين من أجل المطالبة بتعديلات تفتقد إلى شروطها العملية كي تصبح واقعا ملموسا.
فاستعصاء إيجاد حل لمعضلة الفساد جعل بعض دعاة الإصلاح والكثير من أدعيائه يختزلون الحل في الإطاحة بالحكام الذين لا تاريخ لهم في الحكم، ولا أساس يسندهم غير القوة والتسلط (حالة مصر وتونس وليبيا) أو في تحييدهم عبر إقرار ملكية برلمانية يسود في ظلها الملك ولا يحكم (المغرب نموذجا). اختزال يجعل المتأمل يحذر من مآلات المشاركة في أحداث قد تزيد -مع غياب شروط الإصلاح وأركانه- من عمق الفساد، وتفسح المجال أمام مفسدين جدد بدل أن تمكن المصلحين من مقاليد الإصلاح.
بل قد تفتح البلاد بثرواتها وشعبها وكل مقدراتها أمام الدول الغربية المتربصة كما هو الحال في ليبيا وإن كان في بداياته.
وأخيرا نقول إن هذه الإصلاحات الدستورية لابد أن يسبقها تصحيح للأخطاء التي ارتكبت في العشر سنوات الماضية، فلا بد أن يعاد النظر وبكل جرأة في ملفات 16 ماي وما بعدها، وأن ينصف كل من تعرض للظلم على هامشها، مما يتطلب إعادة كل المحاكمات غير العادلة التي مرت في جو مشحون بالتخويف والترهيب، وكذا تعويض كل مَن لحقه ظلم أو أذى أو تعذيب، كما يجب التراجع بكل شجاعة عن قرارات إقفال أكثر من 67 دارا للقرآن، وأن يكرم من أهين من رموزها ومشايخها، وأن يعاد النظر في الكيفية التي ينظم بها الشأن الديني، وأن يُبعد عنها أولئك الإقصائيون الذي هم دائما على استعداد لخلق الهوة بين مؤسسة إمارة المؤمنين وبين المخلصين من العلماء والصالحين من أفراد الشعب.
كما على الدولة أن تشرك العلماء في هذه الإصلاحات وتكف عن استعمالهم أدوات لتحنيط بنود دستورية معينة من أن يطالها العفن اليساري، أو في إصدار بيانات تحت الطلب لا تجد لها أي صدى في قلوب الذين يرتادون المساجد، فما بالك بمن لا يعرف وجهة القبلة في بيته؛ فالعالم أسمى من أن يكون مجرد قِمْع أو رجع صدى، إذ لا حياة للعالم دون استقلال.
فلا يعقل أن تعطى الحرية لأمثال الجمعيات العلمانية الحقوقية والثقافية والسياسية ليؤطروا الناس ويجهوهم بكل حرية، بينما تحبس جمعيات العلماء في رابطة أحيلت على التقاعد، وانقطعت صلتها بالشعب وهمومه وتطلعاته، بعد أن نفضت يديها من الدفاع عن قضاياه الدينية والدنيوية، وأصبحت تتعايش مع العلمانيين واللادينيين.
كما يجب أن تشمل هذه الإصلاحات الدستورية حذف عبارة: “كما هو متعارف عليها دوليا” من النص الذي يكرس احترام حقوق الإنسان حتى ينسجم مع المادة التي تنص على أن دين الدولة الإسلام، فلا يبقى مطمح للعلمانيين في إقرار حرية الزنا واللواط والردة وغيرها من المطالب المناقضة لدين الإسلام. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }الأعراف.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *