في الحاجة إلى فصل العلمانية عن الإسلام وليس الدين عن السياسة

يحلو للكثيرين ممن لا يحبون رجوع الإسلام إلى موضعه الطبيعي قويا مهيمنا، أن يطالبوا بفصل الدين عن السياسة، مكرا منهم بالمؤمنين الذين يرومون استئناف الحياة وفق أحكام دينهم، معللين مطالبهم، بكون كل المغاربة مسلمين، والسياسة ميدان مدنس يجوز فيه من أساليب المناورة والمنافسة ما لا يحتمل وجود المقدس في جنباته بينما الدين ميدانه مقدس يرنو إلى السمو والطهر ولا يقبل النفاق والمراوغة، وحتى لا تسقط قدسية الدين نفصله عن دنس السياسة، وذلك بمنع استغلاله في لعبة الديمقراطية التي لا تعترف إلا بالنسبي، بينما الدين أغلبه حقائق مطلقة لا تقبل إلا التسليم والانقياد.
فيتوهم السامع لهذه الشبهات أمرين خطيرين:
– الأول: أن في المجتمع ميدانين، الأول للسياسة والثاني للدين.
بينما نجد الممارسة على أرض الواقع تقضي بأن الميدان واحد، لا يمكن الفصل فيه بين السياسة والدين. فالسياسة توغلت في تفاصيل حياتنا اليومية من تشريع القوانين التي تحدد مجال حرياتنا وممارسة حقوقنا، إلى تحديد سعر طعامنا وشرابنا، بل لها دخل حتى في مياه الصرف الصحي الذي يخرج من كُنُف بيوتنا.
فماذا بقي للدين؟ المسجد هو الآخر تضبطه السياسة وتتحكم فيه وفي خطابه وما يجري فيه بل تضبط ساعات فتحه وإغلاقه.
– الثاني: أن الإسلام شأن فردي، لا دخل له بالحياة العامة ولا بتنظيم المجتمع وتأطير أفراده، ولا شأن له بالاقتصاد ولا بالفكر ولا بالسياسة.
في حين نجد أن الإسلام هيمن على مناحي الحياة العامة للمسلمين 15 قرنا قادوا به خلالها العالم بكل عدل وإنصاف، فدخلت أغلب أمم الأرض فيه بمختلف أعراقهم وأجناسهم، إيمانا منهم أنه المخلص من شقاء الحياة المحقق للسعادة في الدنيا والآخرة، فضبطوا وفق شريعته كل حياتهم، لا يفرقون فيها بين خاصة وعامة لشمول أحكامه، هذا الشمول الذي كان سببا حرك غيظ بعض المشركين ودفعهم إلى السخرية من الصحابي الجليل سلمان الفارسي مستهزئين بالإسلام وأهله قائلين: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فرد الصحابي معتزا بدينه مظهرا شمولية الإسلام واعتناءه بالتفاصيل تربية لأتباعه، فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاث أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم”.
فإذا كانت السياسة تشمل في حكمها كل مناحي الحياة، وإذا كان الإسلام قد شمل بتشريعاته كل تفاصيل الحياة عامة وخاصة، فكيف يمكن الفصل بينهما؟
وما دام المسلمون قد ساسوا دولهم بالإسلام على مر قرون تاريخ الأمة، فإن الفصل بين السياسي والديني في دولة مسلمة لن يتأتى إلى بأحد أمرين:
إما أن نقزم الدين ونسجنه داخل الإطار الفردي الذي لا يتجاوز الصلاة والدعاء، وهذا يستلزم إلغاء أحكام الشريعة لفائدة نصوص القانون، وما يستتبع ذلك من تغيير لقناعات الناس وتوجيه ميولاتهم وأذواقهم حتى يقبلوا بدين لا ظل له في واقع حياتهم، وفي حالة الممانعة نبني المزيد من السجون كي تستوعب المعارضين والرافضين.
وإما أن نخضع السياسة لأحكام الشريعة، ونقننها في بنود تحل محل نصوص القوانين الوضعية، دون أن نخل بقيم التسامح وحقوق الإنسان كما يراها الإسلام، لا كما يراه الغرب الذي فصل بين السماء والأرض وثار على الغيب، وأقصى الدين من صياغة لوائح تلك الحقوق.
أما الالتفاف على هذه الحقائق، والعمل على تنويم الناس بدعاوى احترام المرجعية الإسلامية عند تبني المزيد من مستلزمات الحداثة والديمقراطية -التي ترادف العلمانية في أغلب الأحيان-، فهو أسلوب مكشوف لربح الوقت من أجل التمكين للعلمانية في باقي البنيات التي لم تهيمن عليها بعد، لكن هذا الأسلوب يوسع الشرخ بين أبناء الوطن الواحد، ويعمق الهوة بين الحكام والمحكومين، ويذكي نار العداوة والكراهية بينهما.
لهذا نعتبر أن الصراع بين الإسلام والعلمانية في المغرب، صراع عميق خطير قد يهدد استقرار البلاد، نظرا للتناقض الكامل بين المرجعية الإسلامية للمغرب شعبا وتاريخا وهوية وبين العلمانية المستوردة والمفروضة قسرا على الحياة العامة من طرف نخبة ومؤسسات اتحدت مصالحها المادية مع المصالح الاستراتيجية للدول الغربية.
فالدفع المتواصل للبلاد نحو المزيد من العلمنة لن يخدم إلا الجهات التي تروم تقسيم المغرب وإدخاله في مسلسلات من التطاحن بين فئاته.
فالعلمانية هي المسؤول الأول عن كل الانحرافات التي عرفها المغرب.
فتبني النخبة للعلمانية سواء الاشتراكية-الشيوعية أو الرأسمالية كان سببا في ظهور قضايا شكلت معضلات بالنسبة للمغرب والمغاربة منها قضية الصحراء المغربية، فزعماء البوليساريو الانفصاليون كلهم علمانيون، والزعماء العرب الذين دعموهم بالسلاح والرجال والخبرة كلهم علمانيون.
وكذلك قضية الأمازيغية، انحرف بها العلمانيون من أصول أمازيغية حتى أصبحت حماية حقوق الأمازيغ عند أغلبهم تقتضي بالضرورة الانفصال عن الوطن والكفر بالإسلام، بل طرد العرب المغاربة من البلاد مع كتابهم أي القرآن -على حد تعبيرهم-.
فمتى كان الاختلاف العرقي بين مكونات الشعب المغربي له قضية تحتاج إلى الصراع والنضالات للحصول على الحقوق؟ ومتى انفصلت حقوق العرب عن حقوق الأمازيغ؟
فلم نسمع في حكايات التاريخ الشفوية، ولم نقرأ في سواد كتبه المخطوطة عن مطالب بانقسام الأمازيغ المغاربة عن العرب المغاربة، حيث لم تكن لهم قضية خاصة لأن الدين كان المرجعية الفكرية والثقافية التي تحدد طبيعة المطالب وتضبط الميولات وتفرق بين الحقوق والأباطيل، وترسم حدود الحريات.
مرجعية فكرية وثقافية إسلامية مبنية على أساس عقيدي يؤمن بأن للكون خالقا، وللإنسان ربا، وللحياة غاية تنتهي إليها، فكان المغاربة حكاما ومحكومين ينطلقون من هذا التصور للحياة والكون والإنسان، وكانت النخبة تحدد مطالبها وفق شريعة الله منسجمة مع عقيدتها.
فلم يكن في المغاربة مثلا من يطالب بحق المنصرين في أن يبنوا الكنائس في المغرب ويدعوا إلى عقيدة التثليث الشركية.
لم يكن فيهم من يطالب بحرية المرأة في جسدها ويدعو على الملإ إلى شيوع الزنا وتحريره من القيود القانونية كما هو حال بعض “الجنسانيين” المغاربة.
لم يكن فيهم شيء يسمى الأمهات العازبات، ولم تكن المغربيات يلدن نصف مليون طفل من الزنا في ستة أعوام فقط.
لم يكن فيهم من يدعو إلى احترام الميولات الجنسية ويجاهر باللواط (الشذوذ) ويدعو إلى حماية حقوق اللواطيين، وينشئ الجمعيات للمطالبة بحمايتها.
لم يكن فيهم من يطالب بإلغاء أحكام الإرث والولاية والقوامة والوصاية بدعوى القضاء كل أشكال التمييز ضد المرأة، لأن الله سبحانه هو الذي ميز بينهن وبين الرجال.
لم يكن فيهم من يرى التبرج حقا من حقوق المرأة مباحا لها، والحجاب مجرد سلوك سياسي وليس من الدين، ولم تكن نساؤهن يخرجن ونصف أثدائهن مكشوف فما بالك بغير الأثداء.
لم يكن لديهم من يمنع تعدد الزوجات إكراما للمرأة، وفي الوقت نفسه يسمح بتعدد الخليلات إنصافا للمرأة وتحريرا لها من قيود العادات والتقاليد!
لم يكن فيهم من يطالب بتحرير تجارة المخدرات والخمور، ويفتح الحانات ودور القمار.
ولم تكن لديهم صحف مثل الأحداث المغربية وصفحتها الساخنة، والصباح ومؤخرتها العارية، لم تكن لديهم قناتان الأولى والثانية بمسلسلاتهما البرازيلية والمكسيكية.
لم يكن فيهم كل ذلك، لأنهم كانوا باختصار يمتثلون أحكام الدين وينضبطون وفق الشريعة الإسلامية، فكانت معايير الحكم والتمييز بين الناس وبين الأشياء واضحة المعالم منضبطة وفق مرجعيتهم الدينية والعقيدية، فكانوا يفرقون بين الإسلام والكفر، وبين الإيمان والإلحاد، بين المحسن والمسيء وبين الفسق والصلاح.
غياب هذه المعايير كان قسرا بفعل الاستعمار أولا، وبفعل تكريس منهجه ونظم حكمه بعد الاستقلال ثانيا، ومن جراء الانفتاح غير المنضبط على كل ما هو غربي ثالثا ورابع وخامسا و..
غياب المعايير المذكورة، هو الذي جعل الوزيرة نزهة الصقلي تسوي بين القيم الكونية وبين القيم الإسلامية، وتفسر اختلاف الناس معها إلى فهمهم للإسلام فهما جاهليا حيث صرحت لقناة الراي2 قائلة:
“الآن بلدان العالم تتقاسم نفس القيم والمبادئ، في المغرب أثبتنا أن القيم الكونية للمساواة الحرية الكرامة الإنسانية لا تتعارض مع القيم الإسلامية؛ حول هاته القيم الكونية يختلف البعض وذلك نتيجة لقراءة ضيقة تنظر للمرأة بثقافة تعود إلى عصر الجاهلية”.
وللمغاربة أن يسألوا الوزيرة:
هل القيم الكونية المؤطرة لحرية الاعتقاد والتي تبيح للإنسان أن يرتد عن الإسلام إلى البوذية الوثنية، لا تتعارض مع القيم الإسلامية التي تبنى أول ما تبنى على توحيد الله سبحانه؟
وهل القيم الكونية التي تمنع من التمييز بين الناس على أسس ميولاتهم الجنسية وتبيح اللواط-الشذوذ والسحاق بل تدعو إلى تقنينه، لا تتعارض مع القيم الإسلامية؟
الأسئلة كثيرة متعددة بعدد التناقضات بين العلمانية والإسلام، لكن إذا علمنا أن الوزيرة تنتمي إلى حزب علماني حتى النخاع، أسسه الفرنسيون إبان الاستعمار، وكان يسمى الحزب الشيوعي قبل التقدم والاشتراكية، يتبدد الكثير من العجب، لكن يبقى الكثير من القلق إذا علمنا أن الوزيرة طال مكثها في الوزارة المكلفة بأسرنا ونسائنا وأطفالنا حتى تستكمل ما بقي من خطة إدماج المرأة في التنمية التي تقدم بها حزبها، ولاقت وقتها معارضة شرسة من طرف كل العلماء والملايين من أفراد الشعب المغربي المسلم. ولن يكون رفع التحفظات عن اتفاقية سيداو آخر منجزاتها، فقانون إباحة الإجهاض على الأبواب، ويتلوه قانون التبني، ومن بعدهما قوانين تلغي الولاية والوصاية والإرث في ذلك في النسخة الثانية من مدونة الأسرة، كما سبق أن صرحت بذلك زكية الطاهري مخرجة سلسلة “مدام مسافرة” لقناة تي في 5، والتي تعمل في الإعلام المغربي وبأموال المغاربة على تغيير قناعاتهم وتهيئتهم نفسيا حتى يقبلوا بما ستسنه الوزيرة الصقلي من قوانين.
على العلمانيين أن يعلموا أن المغاربة ليسوا في حاجة لفصل الدين عن السياسة، وإنما هم في حاجة ماسة لفصل العلمانية عن الإسلام، “قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهَدّي إِلاَّ أَن يُهْدَى، فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ”يونس.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *