انطلاقا من إيماننا بآيات خلق الإنسان كما أخبرنا بها الله سبحانه وما صاحَبَها من أحداث يمكننا أن نستشف المعركة التي انطلقت منذ بداية خلق آدم بين الحق والباطل، ولن تنتهي إلا بقيام الساعة، هذه المعركة التي تختزل العداء الدائم بين امتثال أمر الله وامتثال أمر الطبيعة؛ هذا الصنم الذي تتوارى خلفه كل المذاهب والفلسفات المادية، ونطق باسمه الشيطان عند أول معارضة منه لأمر الله سبحانه.
فكلما قرأت قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}. إلا ويستوقفني التشابه بين موقف الشيطان هذا ومنهج العلمانيين في رد نصوص الوحي وأوامر الله عز وجل بدعوى العقلانية ونبذ كل ما لم تدل عليه العلوم التجريبية، مصرين على إقامة التعارض بين القرآن والسنة وما وصل إليه العلم الحديث، حتى ليظهر للمتأمل أن هذا التشابه يصل حد التطابق.
فإبليس -أعاذنا الله من شره- لما رفض الأمر الرباني بالسجود لآدم اتباعا لهواه؛ أراد أن يُلبس هذا العصيان والتمرد على الأمر الإلهي لبوس العلم، فاحتج على عدم السجود بأفضلية عنصر مادته وأصل خلقه الذي هو النار على عنصر مادة وأصل خلق آدم الذي هو الطين، ثم بعد هذا التحليل بنى قناعته على الحقيقة العلمية كما تخيلها، فرفض الأمر بالسجود دون اكتراث بمخالفة أمر خالقه وخالق الحقيقة العلمية التي جعلها مسوغة لجواز مخالفة الأمر الإلهي.
ونحن في هذه الكلمة بناء على اقتناعنا بأن العلمانيين ليسوا سواء من حيث الاعتقاد، لا نخاطب من يعتقد أن أصله قرد أو نوع من السمك تطور بفعل الطبيعة فصار على الهيئة المعروفة للإنسان اليوم، لأن أي حديث مع سلالة القرود انطلاقا من الإيمان المسبق بالوحي سواء كان قرآنا أو سنة هو حديث عبثي، إذ لا إيمان لهم بكائن اسمه الشيطان ولا إيمان لديهم بجنة أو نار، وبالطبع لا إيمان لديهم بربهما العزيز القهار.
المنهج نفسه استدل به الكفار المشركون والملحدون على أنبياء الله تعالى حيث واجهوا الأوامر الربانية بالانصياع لرسل الله إما بحقائق تخيلوها علمية، أو بالمطالبة بالتجربة الحسية، فرد الله عليهم في قوله العزيز: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
فهذا الصنف من الفلاسفة الدهرية ومن شايعهم لا يؤمنون بحياة أخرى إلا التي هم فيها ولا حياة سواها، تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات، فهم لا يؤمنون بما وراء المادة، ولا يقتنعون إلا بما تثبته التجربة، لهذا لما ادعوا أن الحقيقة العلمية لديهم لا تثبت البعث وما بعده، رد عليهم الله سبحانه بنفي صفة العلم عن كل هذه الادعاءات بقوله: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، وجريا على المنهج نفسه المبني على التشبث بما يحسبونه علما أو مصدرا للحقائق اليقينية، طالبوا رسل الله سبحانه بإخضاع ما يخبرونهم به للتجربة حتى يصدقوهم في ما يخبرونهم به من وجوب طاعة الله والإيمان بالبعث والغيب كله، فقالوا: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. أي ائتونا بآبائنا الذين قد هلكوا أحياء وانشروهم لنا إن كنتم صادقين حتى نؤمن ونصدق بحقيقة ما تقولون.
ومن يتأمل في المنهج العلماني في التعامل مع القرآن والسنة اليوم، يجده لا يخرج عن منهج أسلافهم -وقد كان منهم الفلاسفة وأصحاب الرأي-، إذ يرفضون كل الحقائق الشرعية كيفما كانت من حيث اليقين أو البداهة بدعوى مخالفتها للحقائق العلمية وخلاصات الأبحاث ونتائج التجارب، وما ذلك إلا ليبطلوا العمل بأي نص شرعي.
لذا تراهم يلحون في المطالبة بتغيير ما تبقى من آثار الشريعة في القوانين الوضعية بدعوى أن التطور الطبيعي للمجتمع قد تجاوزتها، ومن ذلك مطالبتهم بإلغاء القوانين المانعة لاستهلاك الخمر وبيعه للمسلمين، وكذا مطالبتهم بالحق في تبديل الدين والمعتقد من الإسلام إلى البوذية أو النصرانية.. رغم النصوص القطعية لحرمة لذلك.
ومن ذلك أيضا نظريتهم المسماة تاريخية النصوص وكل مقررات فكرهم العلماني، التي تستهدف في النهاية تحييد الإسلام في المجتمعات والدول المسلمة وسجنه في المساجد وإجبار الناس على الاعتقاد بأن اعتناق الإسلام مسألة شخصية وحق فردي، لا علاقة له بسياسة الدولة أو بالنظم العامة، تماما كما حصل للنصرانية والكنيسة في مجتمعاتها ودولها.
واستنادا إلى ما سبق يتبين أن ادعاء العلمانيين على مر العصور بأن لا حقيقة إلا ما يصدر عن التجربة وأن ما وراء الطبيعة مشكوك فيه، لأنه لا تشهد له الأدلة العقلية، -وما يرتبون على ذلك من نتائج من قبيل: الإنسان حر في أن ينظم حياته كما يحلو له وفق قوانين يضعها بنفسه لنفسه- هو منهج يتوسلون به إلى رفض كل أمر إلهي، ومحاولة لإبطال الحكم بشريعة الله، التي كانت محكمة في كل البلدان الإسلامية قبل حملات الاحتلال الغربي العلماني.
لذا نعتبر أن أكبر شر حل بالأمة الإسلامية في العصر الحديث كان هو إحلال النظم العلمانية مكان الحكم بشريعة الإسلام، فأكبر جرائم الاحتلال الغربي في حق دول وشعوب المجتمعات الإسلامية تَمثَّل في إسقاط نظام الخلافة الإسلامية وإحلال نظمه العلمانية مكانه.
فالعلمانية سواء كانت تشريعا أو سياسية أو اقتصادا أو إدارة أو فكرا أو سلوكا هي نظام جاء محمولا إلى البلدان الإسلامية في بدايات القرن الماضي على دبابات المحتل الأوربي الذي حارب العقيدة والشريعة الإسلاميتين، وهو اليوم مدعوم مسنود من طرف منظمات الغرب ودوله.
إذًا، لا يجب أن نفهم مواقف علمانيي الدول الإسلامية إلا على ضوء الحقائق السالفة، فمواقفهم من الحجاب ومن الشريعة الإسلامية ومن البنوك الإسلامية ومن قضايا الإرث وتعدد الزوجات والنقاب والاختلاط، وكذا مواقفهم من اللواط “الشذوذ” ومن الخمر وممارسة الزنا، كلها مواقف لا تخرج عن المنهج العلماني القديم والذي جُدِّد على يد أسيادهم من الغربيين. هذه الحقائق تجعلنا نجزم أن العلمانيين -سواء شعروا أم لم يشعروا- هم طابور خامس من طوابير الجيوش المتعاقبة على إفساد المجتمعات الإسلامية، يتولون إدارة المعارك بالوكالة عن علمانيي الدول الغربية ضد كل ما هو إسلامي.
ومن يراجع ما كُتب عن حقبة الاحتلال في مختلف البلدان الإسلامية، يقف على شراسة المعارك الدائرة بين صف العلمانيين ورجال الاحتلال وصف العلماء والفقهاء والدعاة المنافحين عن الإسلام وشريعته.
هذه المعارك نعتبرها غير منفصلة عن المعارك الراهنة التي تدور رحاها بين المدافعين عن الإسلام اليوم وبين العلمانيين الذين دافعوا عن لواطيي “كيف كيف” وآزروا مستهتري “وكالين رمضان” وينافحون اليوم عن المنصريين المتربصين بعقائد الأطفال في عين اللوح وغيرها من المناطق في مغربنا المسلم، والذين أغراهم سكوت أكثر العلماء عن جناياتهم حتى أصبحوا يطالبون جهارا بتبني العلمانية نظاما للحكم في المغرب.
ونحن في هذه الكلمة بناء على اقتناعنا بأن العلمانيين ليسوا سواء من حيث الاعتقاد، لا نخاطب من يعتقد أن أصله قرد أو نوع من السمك تطور بفعل الطبيعة فصار على الهيئة المعروفة للإنسان اليوم، لأن أي حديث مع سلالة القرود انطلاقا من الإيمان المسبق بالوحي سواء كان قرآنا أو سنة هو حديث عبثي، إذ لا إيمان لهم بكائن اسمه الشيطان ولا إيمان لديهم بجنة أو نار، وبالطبع لا إيمان لديهم بربهما العزيز القهار، ونقصد من يرفع شعار “إنما هي بطون تدفع وأرض تبلع” فهم المعنيون في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، وإنما حديثنا مع من يؤمن بالبعث والقيامة والجنة والنار، ويعتقد أنها فرع عن إيمانه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا، وإنما انطلت عليه الشبه وخدعته الحيل لضعف الحجة أو لرقة الدين، محاولين تلمس بذرة الإيمان في قلبه، هذه البذرة التي ما إن تسقى بالعلم الشرعي حتى تدفع بصاحبها إلى البحث عن الحقيقة الموصلة إلى معنى الإتباع والإعراض المذكورين في قوله تعالى:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل