لا مكان للانتهازيين والمفسدين في مرحلة ما بعد الإصلاحات الدستورية

..لا يكفي أن يستقيل إلياس العماري أو فؤاد عالي الهمة من الأصالة والمعاصرة، فالذي يجب أن “يستقيل” أو “يُقال” هو افتعال الصراع بين مكونات المجتمع من أجل صناعة توازنات سياسية تبقي على الفاسدين والنافذين الذين يحرسون النظام مقابل استغلالهم لثروات البلاد، الذي يجب أن يحارب ويندثر وإلى الأبد هو تلك المدرسة التي ترى في رجوع الإسلام إلى السياسة خطرا على الدولة والشعب، فتبذل بسخاء مشورات الإقصاء والتهميش لفئة كبيرة وفاعلة في المجتمع لها شرعيتها في قلوب الناس ووجدانهم، لأنها تستجيب لهويتهم وآمالهم في أن يحيوا حياة العفة والكرامة والأمن الروحي والعقدي.

فمهما اتخذنا من تدابير ومهما وضعنا من خطط لن نفي بمستلزمات الإصلاح إن أبقينا على مرتكزات السياسة التي حكمت عقودا من الزمن، فالإصلاح يتطلب من الدولة أن تكون في مستوى التحديات، وأن تواجه اللوبيات الاقتصادية المغربية والدولية بحزم، للحفاظ على وحدة المغرب وأمنه، وأن تتعامل مع ما تمليه اتفاقاتها الدولية -ملف محاربة الإرهاب نموذجا- من مواقف تتنافى مع واجباتها اتجاه الشعب المغربي والأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية.

يبدو في الأفق أن التغيير حاصل -إن شاء الله-، لكن العقلاء والمصلحين لا يرومون التغيير من أجل التغيير كما هو حال بعض من يركب أمواج الاحتجاجات والمظاهرات، بل يطمحون إلى تغيير يتكلل بإصلاح لهذا الفساد المستشري في جسم أمتنا المغربية، إصلاح يكون فيه الإسلام مرجعية ومصدرا ونبراسا يضيء الطريق حتى يتلمس المصلحون مكامن الداء فيعالجونه، وجذور الفساد فيستأصلونه، دون أن يخالفوا هوية الأمة وثوابتها.
لقد أصبح لزاما علينا أن نعمل على صياغة واقع ما بعد الاستفتاء على المراجعات، وفق ما تقتضيه مقومات هويتنا المغربية، وثوابتنا الدينية والوطنية، كما صار من اللازم أن نقطع مع الطريقة الملتبسة التي أصر المتنفذون على التعامل بها مع أكثر ملفاتنا خطورة وحساسية: كملف الانخراط في الحرب على الإرهاب وفق الطريقة الأمريكية، وملف مدونة الأسرة الذي حسم الخلاف بشأنه في جو مليء بغبار الانفجارات الإرهابية، ومشحون بالخوف والترهيب، وملف تدبير الشأن الديني الذي عرف تجاوزات حقوقية وقانونية تمثلت في إغلاق أكثر من 67 دارا للقرآن، لها تاريخها ورصيدها الزاخر في الإبقاء على معالم الدين ومظاهر التدين في واقع مغربي شهد الحملات تلو الأخرى من أجل مسخه وعلمنته، وغيرها من الملفات التي ما كانت لتمرر بالسهولة والسرعة التي عرفتها لولا جو التعتيم والإرهاب والترهيب، الذي أدارته بخبث مؤسسات حزبية كالأصالة والمعاصرة وصحف مأجورة كجريدة الأحداث والجريدة الأولى ومجلتي نيشان وتيل كيل، ومنظمات حقوقية كالرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة وبيت الحكمة.
ورغم أن الكل يجمع على خطورة المرحلة وحتمية التغيير إلا أن أبطال الظلم والظلامية ومخرجي أكثر السيناريوهات إرهابا ودموية خلال مرحلة ما بين 16 ماي 2003 وخطاب 09 مارس 2011 لا زالوا يبحثون عن مداخل يتسربون من خلالها ومتعلقات يتمسكون بها، حتى يلعبوا أدوارا مهمة في المرحلة الجديدة، كان آخرها أحداث أركانة/مراكش الدامية، حيث حاول المفلسون من العلمانيين اتهام التيارات الإسلامية لكن هذه المرة على استحياء وتخوف، لأن وجوههم الكالحة قد سقط عنها القناع بعد كل ما تفجر ولا يزال يتفجر من تسجيلات تحكي حجم الانتهاكات الحقوقية التي كان ضحيتها مغاربة، هذه الانتهاكات التي صفق لها العلمانيون في جريدة الأحداث المغربية وغيرها، نكاية في أولئك المغاربة الذين لا ذنب لأغلبهم غير أنه يرتدي جلبابا ويعفي لحية وذلك عقب أحداث الدار البيضاء.
فمَن كان وراء الانتهاكات التي طالت أجساد المواطنين بصروف التعذيب وأشكال الإذلال داخل المعتقلات السرية ومخافر الشرطة، ومن وضع خطة تصفية التيارات الإسلامية ومصادرة حقوقها في تنظيم المواطنين وتثقيفهم وتوعيتهم، ومن خطط لإغلاق دور القرآن وانتهاك حقوق الجمعيات المنظمة لها، ومن كان وراء استصدار الأحكام القضائية التي عاقبت الناس على النوايا والمعتقدات ووزعت على المظلومين عقوبات بالسجن فاقت مدتها مجتمعة عدة قرون من الزمن، ومن كان وراء تهيئ الأجواء وشحنها بالأكاذيب وتزوير الحقائق من وزراء ومسؤولين وصحفيين وحقوقيين وسياسيين، كل أولئك لابد أن يحاسبوا ويعاقبوا ويهمشوا من أي خطة للإصلاح، مع الاستعاضة عنهم بأطر وطنية نزيهة لطالما هُمشت من طرف الانتهازيين والمفسدين.
فتنامي الاحتجاجات وانضمام المزيد من الناس إلى المظاهرات يوما بعد يوم يتطلب من المسؤولين إلقاء السمع وتوطين العزيمة وصدق النية حتى نجنب بلادنا حلول الكارثة ووقوع ما هو أفظع، كما يتطلب استجابة فورية للمطالب العادلة لفئات الشعب، وذلك حتى نقطع الطريق على أي جهة تلعب باستقرار المغرب وأمنه، ولها من الإمكانات ما يخول لها أن توجه الأحداث وتستغلها لصالح لاعبين جدد يسطون على مرحلة ما بعد التغيير، فهذه الاحتجاجات المطالبة بالتغيير -كما شاهدناها في بلدان عربية كمصر وتونس وليبيا- تبدأ ككرة الثلج المنحدرة من قمة جبل تكبر وتكبر ولا تزيدها الليالي إلا تضخما حتى إذا وصلت السفح أحدثت زلزالا لا يعلم أحد -مهما بلغت حكمته وتشوفه- مدى حجم الخراب الذي سيعقبه، فالغضب خصوصا إذا لم يكن له من يلجمه ويصوبه أسفر عن دمار.
إن الشعارات والمطالب التي يرفعها المحتجون منها ما لا يسع السلطات أن تتغافل عنه أو تتجاهله رغم صعوبة تحقيقه، فمطالب من قبيل: إسقاط الفساد ورموزه وتوزيع ثروات البلاد بالعدل بين أفراد الشعب، كلها مطالب لا يختلف حولها من تظاهر ومن لم يتظاهر، مَن خرج من بيته ومن فضل الاعتزال، إلا أن تلبيتها ليس بالسهولة التي يظنها أغلب الشباب، لكن بالمقابل لا ينبغي أن تدفع الدولة بهذه الصعوبة في وجه مطالب الشعب لتتنصل من واجب الإصلاح، إذ يجب على الدولة أن تتخذ إجراءات وتدابير تعطي من خلالها رسائل الاستجابة لمطالب الإصلاح.
فلا يكفي أن يستقيل إلياس العماري أو فؤاد عالي الهمة من الأصالة والمعاصرة، فالذي يجب أن “يستقيل” أو “يُقال” هو افتعال الصراع بين مكونات المجتمع من أجل صناعة توازنات سياسية تبقي على الفاسدين والنافذين الذين يحرسون النظام مقابل استغلالهم لثروات البلاد، الذي يجب أن يحارب ويندثر وإلى الأبد هو تلك المدرسة التي ترى في رجوع الإسلام إلى السياسة خطرا على الدولة والشعب، فتبذل بسخاء مشورات الإقصاء والتهميش لفئة كبيرة وفاعلة في المجتمع لها شرعيتها في قلوب الناس ووجدانهم، لأنها تستجيب لهويتهم وآمالهم في أن يحيوا حياة العفة والكرامة والأمن الروحي والعقدي.
فمهما اتخذنا من تدابير ومهما وضعنا من خطط لن نفي بمستلزمات الإصلاح إن أبقينا على مرتكزات السياسة التي حكمت عقودا من الزمن، فالإصلاح يتطلب من الدولة أن تكون في مستوى التحديات، وأن تواجه اللوبيات الاقتصادية المغربية والدولية بحزم، للحفاظ على وحدة المغرب وأمنه، وأن تتعامل مع ما تمليه اتفاقياتها الدولية -ملف محاربة الإرهاب نموذجا- من مواقف تتنافى مع واجباتها اتجاه الشعب المغربي والأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية.
إن وعود الإصلاح تتطلب من الدولة حتى تكتسب المصداقية أن تعبر للشعب كذلك عن عزمها على الاستجابة لمطالبه، من خلال التوقف عن استفزازه بالإصرار مثلا على إقامة مهرجان موازين رغم معارضة الملايين من المغاربة إذ لم تَخلُ وقفة أو مسيرة من لافتة تندد به وتطالب بإلغائه.
كما على الدولة أن تتوقف عن اتخاذ قرارات توسع دائرة الشجب والاستنكار وتعطي الانطباع بتحيزها إلى فئة الفاسدين من رجالها وأجهزتها، فاعتقال الزميل رشيد نيني كان قرارا خاطئا لأنه أعطى الحجة القوية أن القضاء لا يزال حتى في مرحلة الإعداد للإصلاح موجها غير مستقل يعمل بمنطق تصفيات الحسابات، إذ كيف يعقل أن يعتقل مدير أكبر جريدة في المغرب في وقت يحتاج فيه المغاربة إلى من يطمئنهم على مصداقية ما جاء في الخطاب الملكي من نوايا الإصلاح؟
وبالموازاة نرى أن الإصلاح يفرض على الدولة أن تتخذ قرارين هامين قبل الاستفتاء، أحدهما: إلغاء قرارات إغلاق دور القرآن ورفع الحيف الواضح والظلم الجلي الذي لحق جمعياتها وانتهك حقوق القائمين عليها والمستفيدين منها، والذين يشكلون فئة عريضة ومنتشرة على طول البلاد وعرضها، وثانيهما: تصفية ما سمي بملف معتقلي السلفية الجهادية، نظرا لما شابه من انتهاكات أحدثت الرعب في المواطنين وفضحت حجم الفساد المستشري في أجهزة الدولة.
إننا لم نعد في حاجة إلى المماطلة، فالاستجابة لمطالب الإصلاحات أصبحت ضرورة حتمية يعتبر الاستهتار بشأنها خطرا يجعل المغرب في مفترق الطرق ومفتوحا على كل الاحتمالات، لذا يجب أن يعلم الانتهازيون والمفسدون ألا مكان لهم في مرحلة ما بعد الإصلاحات الدستورية، كما على المصلحين أن يتخذوا سبيلا يمتثلون فيه هدى الله سبحانه القائل في كتابه الحكيم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}القصص.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *