وياكم من الرشوة..أين البعد الديني؟

لسنا في حاجة لتقارير دولية تعلمنا بمرتبتنا بين الأمم في تفشي الرشوة، لأننا جميعا حكاما ومحكومين، مجتمعا وأفرادا نعلم أن الوضع متعفن وأن الجميع يتواطأ على دفعها إلا من رحم الله وقليل ما هم، وأقل من هذا القليل من يتورع في أكلها.
الرشوة هي الخنجر الذي يقتل النزاهة، والسم الذي يعمي البصائر، والسحر الذي يقلب الباطل حقا والحق باطلا، لذا عرفها علماؤنا بـ: “ما يُعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل.” الجرجاني.
والرشوة بالنسبة لجسم المجتمع كداء فقدان المناعة المكتسب (السيدا) بالنسبة لجسم الفرد، تفقده مناعته ضد باقي الأمراض فينتشر الظلم والبغي وأكل أموال الناس بالباطل والإجرام والدعارة وكل الموبقات والمعضلات، فكل ظاهرة سلبية مخالفة للقانون لا يمكن أن تستمر دون أن تكون الرشوة هي من أعمى عين المراقبة أو شل يد المتابعة أو أسكت فم قاضي المحكمة.
فآلاف حبات الأدوية المهلوسة “القرقوبي” لا تنتشر في أحيائنا إلا بتغطية يشتريها مروجوها بالرشاوى، دون اكتراث لما يقترفه متناولوها من جرائم بشعة كقتل الآباء والأمهات واغتصاب الأخوات ناهيك عن قتل واغتصاب مَن دونهن، وقطع الطرق بالأسلحة لسلب الناس أموالهم.
وما يقال عن دور الرشوة في انتشار حبوب الهلوسة يقال في انتشار الدعارة والمخدرات والبناء العشوائي وتهريب السلع وغيرها من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تزيد من حدة تأخر اقتصادنا وتفكك أسرنا وإضعاف تماسك مجتمعنا وتكافله.
فكيف يستقيم الإصلاح في ظل استشراء الرشوة في الإدارات؟
وكيف يستوي الإصلاح وقد سيطرت على الناس قناعة بأنهم لن يحصلوا على حقوقهم ما لم يقدموا بين أيديهم رشوة لمن يملك حق التأشير على ملفاتهم ووثائقهم؟
وكيف يحارب الفساد وأصحاب المشاريع الخاصة وكذا أغلب من يتولى تنفيذ الصفقات العمومية يعمدون مسبقا إلا مخالفة القانون لأنهم على يقين تام أن الإدارات العمومية أغلب مَن يسيرونها لا يتورعون عن أكل الرشوة؟
فالرشوة يندثر معها من قلوب الناس خلق الأمانة الذي لا قيام للولايات والوظائف العامة بدونه، فـ”إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة” كما قال علماؤنا.
والمؤسف غاية الأسف أن مسؤولينا عندما قاموا لتوعية المغاربة بخطر الرشوة وتحسيسهم لعامة الناس بضرورة الإقلاع عن هذا السلوك الخبيث، آثروا أن يخاطبوهم كما يخاطب أصحاب المنتوجات التجارية الزبائن المفترضين حتى يقنعوهم بجودة منتوجاتهم في أسلوب بعيد كل البعد عن طبيعة الداء والدواء معا.
فالسؤال العريض الذي يطرحه العديد من الناس عند سماع أو مشاهدة الوصلات التلفزية التي تبثها الإذاعات والقنوات التلفزية ضمن البرنامج الوطني التحسيسي بخطورة الرشوة هو: أين البعد الديني في هذا البرنامج؟
أين توظيف نصوص القرآن والسنة الزاجرة لهذا الفعل؟
مثل قول الله تعالى: “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” سورة البقرة، وقوله سبحانه: “وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” سورة المائدة. ومثل قول نبينا صلى الله عليه وسلم: “لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ”.
فهل سيكف المغاربة عن إعطاء الرشوة وأكلها بوضع الملصقات أو بث الوصلات الإشهارية أكثر من سماعهم وتوعيتهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبلغ أمته أن الراشي والمرتشي ملعونان من الله سبحانه، وأن اللعنة هي طرد من رحمة الله؟
إننا لا نقلل من أهمية التحسيس عبر وسائل الإعلام وبمختلف الطرق، لكن الحديث هو عن فحوى خطاب التحسيس وليس عن أداته أو وسيلته.
لماذا يصر هؤلاء على أن يكون خطابنا التحسيسي مستجيبا لما تمليه القناعات العلمانية عند بعض من يرى في تخويف الناس بربهم ضربا من الظلامية مناف للعقلانية والحداثة؟
ولماذا يراد لنا أن نقطع مع ديننا وربنا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم كلما تعلق الأمر بتدبير ملف من الملفات ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي؟
أسئلتنا هذه تظهر لنا مدى تغلغل العلمانية في البناء الثقافي والعقدي لنخبنا مما جعل أغلبها حريصا على عزل كل مناحي الإصلاح وبرامجه عن أي ملمح من ملامح الدين أو التدين، حتى يبدو المغرب للعالم الغربي المانح مستجيبا لما تمليه مؤسساته المالية والثقافية والحقوقية علينا من إملاءات.
إن المغاربة مسلمون ولا يمكن أن يغير من سلوكهم شيء أكثر ولا أنجع من إسلامهم ومقومات هويتهم، فالمرجعية العقدية والفكرية مؤثر هام في السلوك الفردي، لذا علينا أن نربط الناس بربهم وبنبيهم وبدينهم الذي ارتضاه الله لهم، ولنتأمل كيف صاغ الإسلام شخصية الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من خلال حادثة محاولة بعض اليهود رشوة مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ففي موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حَلْياً من حلي نسائهم، فقالوا له هذا لك، وخفّف عنّا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرّشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض”.
ولنسترسل في التأمل في قوله: “..فأما ما عرضتم من الرّشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها..”.
إن غياب الوازع الديني، ونقص الإيمان عند الرّاشي والمرتشي من أهمّ عوامل بذل الرشوة وأكلها، لذا فإننا نرجو أن يتدارك المسؤولون الأمر في المرحلة الثانية من البرنامج -خلال شهر مارس القادم- ويعطوا للدين حقه في معالجة ما أفسدته العلمانية في مجتمعنا المسلم، خصوصا وأن المقاربة القانونية والأمنية لم تؤد دورها في الحد من الظاهرة. هذا مع العلم أن عملية القضاء على الرشوة رهينة بوجود إرادة سياسية توفر شروط وضع خطة مندمجة متعددة الأبعاد (تعليمية، إعلامية، اقتصادية، اجتماعية..) يوجهها الدين بهديه وأخلاقه وتنظمها شريعته بسموها وحكمتها.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *