“اتفقت حكومة الجمهورية الفرنسية مع جلالة السلطان على إنشاء نظام جديد في المغرب يسمح بالإصلاحات الإدارية والقضائية والتعليمية والاقتصادية والمالية والعسكرية التي ترى الحكومة الفرنسية فائدة في إدخالها للمغرب.
وهذا النظام الجديد سيحافظ على الوضعية الدينية وحرمة السلطان ومكانته المعتادة وتطبيق الدين الإسلامي، وسيصون المؤسسات الإسلامية خصوصا مؤسسات الأوقاف كما أنه سيتضمن تنظيم حكومة شريفة على أساس إصلاحي”.
هذا ما تضمنه الفصل الأول من نص معاهدة الحماية المفروضة من طرف فرنسا على المغرب بتاريخ 30 مارس 1912، والكل الآن بعد مضي قرابة قرن من الزمن يعرف حقيقة تلكم الإصلاحات الإدارية والقضائية والتعليمية والاقتصادية والمالية والعسكرية التي رأت الحكومة الفرنسية إدخالها للمغرب، والكل يعلم أنها لم تحافظ على الوضعية الدينية ولا على حرمة السلطان ومكانته المعتادة وأبطلت تطبيق الدين الإسلامي ولم تصن المؤسسات الإسلامية خصوصا مؤسسات الأوقاف حيث كانت تصرف من مداخيلها على بناء الكنائس في المغرب وتمول منها مشاريع إرسالياتها التنصيرية.
والمؤسف أن كل المشاريع والإصلاحات (الإفسادات) التي قام بها المحتل استمرت بعد حصول المغرب على الاستقلال مما يفيد أن فرنسا لم تفقد الكثير من نفوذها على تصريف الأمور بعد خروجها، فالتنصير استمر بشكل ملحوظ والكنائس التي بنيت على أنقاض المساجد لم يتم هدمها، والشريعة الإسلامية لم يستأنف العمل بها، بل احتفظ بالقوانين الفرنسية التي أثارت مقاومة الوطنيين بل قتال المجاهدين، وكذلك الدعارة التي أسسها الجنود الفرنسيون استمرت رعايتها إلى أن تفجرت كل الفضائح وبشكل مدو داخل المغرب وخارجه، والربا والقمار طورت قوانينه وأساليبه ووسعت دائرته، وصناعة الخمر فاقت كل حدود التطوير والترويج حتى تحققت في المغاربة كلمة ذلك الراهب التي نشرتها مجلة المغرب الكاثوليكي سنة 1923، حيث قال: ” الخمر هذا المشروب الرجولي البهيج، سيحل محل الشاي الأخضر بالنعناع المشروب المخنث، وسيصبح مشروبا وطنيا للبربر”. ولقد أصبح المغاربة فعلا أكثر تناولا للخمر من الشاي، حتى إن غالبية الجرائم التي تقترف يكون سببها تناول الخمور، كان آخرها جريمة مكناس البشعة.
أما التفرقة العرقية بين المغاربة والتي أطرها الظهير البربري (1930) وما سبقه من ظهائر ولحقه من إجراءات، ما زالت تتطور يوما بعد يوم لتحافظ على مكانتها ودورها في مشروع إضعاف المغرب وتكريس تخلفه وتشرذمه، فأصبحنا نسمع من مثقفي وسياسيي الحركات الأمازيغية دعوة لطرد العرب وإخراج القرآن من المغرب، الأمر الذي لم تكن تجرؤ فرنسا على أن تتفوه به.
أما على صعيد الثقافة والتعليم فلا مجال للحديث عن الهوية أو الدين حيث المناهج أغلبها معبدة لثقافة فرنسا حتى أن التعليم الخاص قاطبة يستورد كل مقرراته التي أنتجها الفرنسيون لأبنائهم ليخضع لها أبناء المغاربة المسلمين، رغم ما تحمله من عقائد دينية مناقضة للإسلام كعقيدة التثليث، ونظريات مصادمة لعقيدة التوحيد كنظرية داروين، بالإضافة إلى إصرار أغلب الإدارات على تحرير مراسلاتها الإدارية باللغة الفرنسية رغم وجود مذكرات بضرورة التزام اللغة العربية في صياغة وثائقها، لتضيع جهود عقود من النضال والجهاد والمقاومة من أجل الهوية والدين.
إننا في مقابل التطور واللحاق بالغرب رفضنا الرجوع إلى الشريعة الإسلامية ففقدنا أغلب مقومات هويتنا وديننا اللذين كانا سبب قوتنا وسر عزتنا منذ أن فتح الأجداد بلاد المغرب، فلماذا لم نحرز تقدما ولم ندرك رقيا؟
الجواب بإيجاز: لأننا تبعنا سبيل ومنهاج من كنا نعتبرهم بالأمس أعداء ومحتلين غاشمين، فأصبحوا اليوم أصدقاء ومرشدين.
حقيقة أن الأمر ليس بهذه السطحية لكن أهم أسبابه تتمحور حول سياسة التبعية للغرب، مما أفقدنا معنى الاستقلال وحال دون بناء سياسة مستقلة عن مراكز القرار الفرنسية أو عن الخبراء والأساتذة الفرنسيين.
إن السذاجة التي يتعامل بها المسئولون عن كافة القطاعات مع ساسة الغرب تطرح عدة علامات استفهام حول مدى إخلاصهم لبلدهم وأمتهم، فهل يمكن فعلا أن يقبل عقل إنسان أن فرنسا مثلا تخلت عن أطماعها في المغرب، وأنها أقفلت كل مشاريعها فيه بعد ما بذلت في سبيلها دماء أبنائها؟
أما ديمقراطية فرنسا وإخائها ومساواتها وحريتها، فتنقلب كلمات جوفاء عندما يتعلق الأمر بالمصالح، فالنزعة النفعية هي الحاكمة لسلوك قادة فرنسا، ألم تكن كل تلك الشعارات موجودة في فرنسا يوم كانت تعيث فسادا في المغرب والجزائر وتونس وسوريا وغيرها من بلاد المسلمين؟
فمن الاستخفاف بالعقول أن نروج للصداقة والانفتاح وننشر قيم وثقافة فرنسا في المغرب، ونبشر بديمقراطيتها وإخائها ومساواتها وحريتها، على حساب ديننا وهويتنا وقيمنا.
إن المنطق الذي يحكم سياسة الغرب مع الدول الإسلامية اليوم هو المنطق نفسه الذي كان يحكمها طيلة مدة احتلالها لبلاد المسلمين، وقد تحدث عنه “الكابتان أودينو” في معرض تحليله لسياسة بلاده الذي كان من كبار رجال السلطة الفرنسيين وأحد أبرز قادتها في المغرب، حيث قال في كتابه محور السياستين:
“أصحيح أننا نود بقاء المسلمين على ما هم عليه من حالتهم؟
أفي مقصدنا أن نرد للإسلام زهرة علومه ومعارفه، فنكون متكلفين بنشر القرآن والسنة فيما بين المسلمين، أو أن دعوانا هذه مجرد كذب وافتراء وزندقة لنتوصل إلى جلب قلوب المسلمين وأنفسهم إلى جانبنا؟
أمن الفائدة الصالحة لنا أن نرقي درجة تلقين العلوم بهذا القطر، أم نتركها على ما هي عليه؟
الجواب هو أن الخطر لاحق بنا سواء في حالة ترقية علومنا أو علومهم، لأنهم إذا ما تعلموا وتنورت أفكارهم تيقنوا بأنهم غير محتاجين إلى وجودنا ببلادهم.
ومجرد ثلاثين سنة كافية لنهضة هذا القطر الفائق أهله حذقا ونشاطا، حتى يصير كاليابان، فيقع لفرنسا في أرض المغرب مثل ما وقع لإنكلترا وأمريكا في طوكيو، إذ يتخذ هؤلاء المسلمون مرشدهم عدوا لهم.
أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع الحوادث السياسية أم لا؟
بلى ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون لهم كافيا ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد،.. وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم أمر يضيق لنا الرحب المعد هنا لفرنسا..وإذا فعلنا وبالغنا في تعليمهم فإنما نحن جالبون على أنفسنا خطرا عظيما يقف بوجه مهمتنا هنا”.
إن الغرب لا يجود علينا بالمال والعلم إلا بالمقدار الذي يضمن له تبعيتنا له، حتى المشاريع الإنسانية التي يقوم بها في بلداننا لا تنفك عن خدمة مصالحه الاستراتيجية، إذ تكون في دعم استمرار ثقافته أو في التخفيف من آثارها المدمرة، لذا نجده يشتغل باستمرار على قضايا الأمهات الزواني والأطفال الطبيعيين والنساء في وضعية صعبة..وكلها من الآثار المباشرة لتبني مبادئ وقيم العلمانية التي أرسى قواعدها الغرب في كافة البلدان الإسلامية.
وربما بتأملنا لتضاعيف كلام “الكابتان أودينو” وهو يضع سياسة بلاده، ندرك صحة رأي من يعزو تخلفنا إلى ارتباطنا بفرنسا والغرب، وعدم قدرتنا على إحراز استقلالنا الكامل عنها، ثقافيا وماليا واستراتيجيا..الأمر الذي يحتم على مثقفينا أن يعيدوا النظر في هذا التهافت الذي يقابلون به كل ما تنتجه عقول الغرب، وأن يكشفوا حقيقة تصريحات قادته خصوصا تلك التي يعتمدونها في تخدير شعورنا حتى يستطيلوا سباتنا ويضمنوا استمرار تبعيتنا، كما على علمائنا أن يشحذوا همم الشباب ويبعثوا مشاعر العزة في نفوسهم بدينهم وتاريخهم، وهذا أخوف ما يخافه الغرب وهو ما عبر عنه “أودينو” في الكتاب نفسه حيث قال: “الإسلام تهديد لفرنسا وخطر عظيم على نفسها، لأنه لو انحاز المسلمون عن جانب فرنسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوتنا”. فأين دعاوى حرية التدين وحرية الاعتقاد؟
وصدق الله العظيم إذ قال: “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ” البقرة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
السبيل