الحريات وحقوق الإنسان والحاجة إلى مكافحة “التهريب الفكري”

يتهم “الحداثيون” الإسلاميين، وخصوصا السلفيين منهم، بالتطرف والغلو ورفض حقوق الإنسان ومعاداة الحداثة وقيم الحرية والكفر بالديمقراطية واستغلال ما توفره من هوامش الحرية للدعوة إلى الانغلاق والتشدد المرتبطين بـ”الفكر الوهابي” والفقه الحنبلي؛ إلى غير ذلك من التهم التي تظهر مدى تجذر ثقافة الحقد والكراهية ونزعة الاستئصال في قلوبهم المفعمة بالتسامح مع كل الانحرافات والكفريات والعقائد المحرفة والملل الوثنية إلا شريعة الإسلام، وهذا اللاتسامح مفهوم إذا أخذنا بعين الاعتبار يقينهم أن لا بقاء لعلمانيتهم في ظل الحكم بالشريعة الإسلامية إذ هما ضدان لا يجتمعان أبدا ما دام البشر يَدِبُّون على الأرض.
فالمشكل بين العلمانيين والإسلاميين لا يكمن في الخلاف حول أصل الحرية وحقوق الإنسان، بل يكمن في المفاهيم والأسس المبنية عليها، فحرية التعبير لا يعارضها عاقل سواء كان مسلما أو غير مسلم، لكن ما يرفضه الإسلاميون والسلفيون وكل مسلم يفهم معنى كونه مسلما، هو تمطيط العلمانيين لحرية التعبير حتى تتجاوز حق العبد لتنتهك حق المعبود سبحانه فتصبح مرادفة للزندقة والدعوة إلى الإلحاد.
والأمر نفسه بالنسبة لحرية الاعتقاد عندما تصبح مرادفة للقبول بالردة عن الإسلام وإعلان الكفر والدعوة إليه يرفضها كل المسلمين، وما قيل في حرية التعبير وحرية الاعتقاد يقال في الحرية الفردية فهي مقبولة مادامت لا تستحل حراما، أو تبيح ما نهى عنه الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إذًا، فالخلاف قائم حول المفهوم الغربي للحقوق والحريات، والذي يدعي له العلمانيون صفة الكونية ليضفوا عليه خاصية الإلزام التي تقتضي الاختفاء الفوري لما تبقى من تعاليم الشريعة الإسلامية.
إن جرأة الخطاب العلماني في طرح ما يخالف شريعة الإسلام والقوانين المعمول بها في البلاد لا يثير أي استغراب لأنهم يعملون وفق مشاريع مدعومة من طرف الدول الغربية تكوينا وتأييدا وتمويلا، لذا فهم يرون أن سبب تخلفنا هو ما يروجه المحافظون من قيم إسلامية تقاوم عملية اللحاق بركب الحداثة الغربية، وتمنع من صعود قطار الديمقراطية الغربية.
لكن بالمقابل ما يثير الاستغراب حقا هو هذا الأمان الذي يُوفَّر لذلك الخطاب العلماني المناقض للدين وهوية البلد ومذهبه المالكي والمخالف للقانون والأعراف.
واستغرابنا هذا هو استغراب يستنكر صمت الموتى وليس الحكماء، الذي أصبح سجية ساداتنا العلماء القائمون على المؤسسات العلمية: كالرابطة المحمدية والمجالس العلمية ومؤسسة الإفتاء؛ استغراب يستنكر أيضا وبقوة امتناع الوكلاء العامون للملك عن تحريك الدعاوى العامة ضد من يحرض على شرب الخمور وممارسة الزنا على صفحات الصحف الوطنية المدعومة بالمال العام وعلى مرأى ومسمع من الكل.
ولنطرح مقتطفات مما تنشره الصحافة العلمانية مثالا عن ذلك، حتى نثير انتباه من يعنيهم أمر حماية الملة والدين من جهة، ونبين مفهوم العلمانيين للحرية الفردية وموقفهم من شريعة الإسلام من جهة أخرى.
ففي جريدة الصباح العلمانية نقرأ ما يلي:
-“لنقلها صراحة وبلا رياء: استهلاك المواد الكحولية اختيار شخصي وحرية فردية يمارسها أشخاص راشدون؛ ولعل تقنين بيعها قد يخفف من استهلاكها، لأن كل ممنوع مرغوب. الشيء نفسه بالنسبة إلى العلاقات الجنسية قبل الزواج في المغرب” الصباح 03/05/2012.
-“اعتبرتُ في حالات كثيرة أن الزواج في مجتمعاتنا، بصداقه وبمتعته وبمؤخر الصداق، ليس إلا دعارة مشروعة. دعارة حلال. دعارة معترف بها قانونيا. دعارة تجعل الرجل يدفع للمرأة صداقا لكي يمارس معها الجنس بموافقة الجميع” الصباح 17/05/2012.
-“لطالما أزعجتني كلمة “شواذ”. لماذا يصر الكثيرون على استعمال كلمة “شواذ”، ويرفضون، عن جهل أو عن تجاهل، كلمة “المثليين”؛ رغم خلو هذه الأخيرة من أي حمولة أخلاقية أو قدحية ومن أي حكم قيمة؟ أن نعتبر شخصا ما “شاذا” معناه ضمنيا أننا نعتبر أنفسنا، بالمقابل، أسوياء” الصباح 09/02/2012 صمت العلماء وغفلة المسؤولين من وكلاء الملك ورجال الأمن إزاء جرائم العلمانيين هذه، وكذا خضوع الدولة للضغوطات الأجنبية وتفضيلها استمرار الدعم المالي والسياسي للدول العلمانية الغربية على حماية مقومات هويتنا، يثير تساؤلات عديدة حول عمليات “التهريب الفكري” التي يشهدها المغرب منذ عقود والتي بلغت أوجها بعد أحداث الدر البيضاء الدامية.
فالإنسان يندهش حقيقة عندما يرى وهو يجول في تاريخ ظهور الأفكار “الكبرى” المناقضة أو المخالفة مخالفة جسيمة للشريعة الإسلامية في المغرب، كيف دخلت مجالاتنا الفكرية والسياسية، فأصبحت لها ملفات يناضل من أجلها ثم غدت أحكاما لها حجية الأمر المقضي به، دون أن تكون يوما ما موضوع اتفاق أو توافق على الأقل؛ بين الفاعلين الأساسين في المجتمع.
الأفكار “الكبرى” تنتقل من خارج حدود المغرب إلى داخله دون رقابة جمركية؛ بشكل يشبه من كل الوجوه تهريب البضائع الممنوعة قانونا؛ لذا جاز لنا أن نطلق على هذه العملية اسم “التهريب الفكري”.
فهذا النوع من “التهريب الفكري” يقوم به أصحابه في ظلام الليل ويتواطؤون مع الجمارك والسلطات الحامية للحدود مقابل رشاوى؛ من أجل إدخاله إلى السوق الفكرية الوطنية؛ وكما أن البضائع الاستهلاكية تعرض دون رقيب في السوق الداخلية رغم أنها مهربة؛ فكذلك تعرض الأفكار والمفاهيم المهربة دون ردع أو حتى مجرد رقابة؛ ومنها أيضاً ما تكون مدد صلاحيتها قد انتهت؛ فتزور لها تواريخ جديدة لاستغفال المستهلكين.
إن ما يؤثث حياتنا الفكرية والأدبية والحقوقية والسياسية أغلبه أمور أو مشاريع كان الأصل فيها “التهريب الفكري”؛ فالحداثة مثلا؛ مفهوم ملتبس مطاطي بألف معنى وألف توظيف؛ فإذا أردت أن تستعمل اللفظ لم تستطع أن تتجنب مطاطية المفهوم، بحيث إذا قلت إنك حداثي فيلزمك أن تتطابق مع مفهوم الحداثة كما نحتته الحضارة الغربية؛ إذ لا يمكنك أن ترفض حرية الضمير أو الاعتقاد التي تفرض عليك أن ترضى مثلا بِرِدَّة ابنك أو ابنتك أو زوجتك عن الإسلام، بل لن تكون حداثيا إلا إذا رضيت وسلمت بحقهم في أن يخالفوك العقيدة لأن الاعتقاد حرية فردية لا يمكن أن تكون موضوع إلزام أو براء؛ بله أن تكون موضوع عقوبة أو جزاء.
فالمقص الحضاري الغربي الذي فصّل العباءة الحداثية جعلها تضيق عن استيعاب كل المقدسات دون تمييز بين ما قدسه الله تعالى وبين ما أحدث قدسيته الإنسان نفسه، إذ الحداثة هي ثورة على المقدس كل المقدس.
لهذا لا يستقيم أن تتبنى الحداثة ثم تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن تطبيق الشريعة يعني منع تعاطي الخمور وتحريم الربا والقمار ويقتضي التحول إلى الاقتصاد الإسلامي، وعدم التسامح مع الشواذ وعدم القبول بالعري؛ الأمر الذي سيضطر إلى سن قوانين لا يمكن الاحتراز فيها من المساس بقضايا تعتبر في عرف الحداثة وثقافة حقوق الإنسان -بالمفهوم الغربي العلماني وليس الكوني-، من المطلقات التي لا تقبل النقاش لارتباطها بالحريات الفردية.
إننا نعتبر أن الصراعات التي عشناها ونعيشها اليوم هي فرع عن “التهريب الفكري” لمفاهيم تخالف في بعض جوانبها مقومات الهوية الإسلامية للمغاربة مما يجعل أي نقاش حولها، لابد أن ينتهي باستعمال السلطة والقوة للحسم فيه، وهو الوضع الذي عرفه الصراع حول خطة إدماج المرأة في التنمية؛ والذي انتهى بإقرار مدونة للأسرة هي أقرب إلى طبيعة الأسرة الفرنسية منها إلى الأسرة المغربية، وهي الطريقة نفسها التي دبر بها ملف كنانيش التحملات الخاصة بالقطب الإعلامي؛ ولنكن أكثر وضوحا ولنتساءل: متى تم النقاش العمومي حول الجوانب السلبية التي ترتبط بتطبيقات مقتضيات الديمقراطية والحرية الفردية وقيم حقوق الإنسان بمفهومها الغربي على الفرد والمجتمع المغربيين؟
فكل انتقاد للديمقراطية والحرية الفردية وحقوق الإنسان يقابل من طرف العلمانيين بالسباب والاتهامات التي ذكرناها في مقدمة المقال.
فمتى نتحلى بالجرأة ونفتح نقاشا جادا ومسؤولا حول سلبيات تطبيقاتها ما دام متنورو الغرب يقرون بالأثر المدمر للحرية بمفهومها الليبرالي على الفرد والأسرة والمجتمع الغربي؟ بشرط أن تسبق هذا النقاش دراسة “غير موجهة” توقفنا على مقدار التشوهات التي أحدثتها عمليات “التهريب الفكري” خلال العقود الأخيرة على بنياتنا الاجتماعية والسياسية…
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *