خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث “التعارض بين الأدلة وضوابط ذلك” رشيد مومن الإدريسي

عرف علماء الأصول التعارض بقولهم: “تقابل الدليلين على سبيل الممانعة، وذلك إذا كان كل من الدليلين يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر، كأن يدل أحد الدليلين على الجواز والآخر على المنع، فدليل الجواز يمنع التحريم ودليل التحريم يمنع الجواز، فكل منهما مقابل للآخر ومعارض له وممانع له” .
وقولنــا : “..إذا كان أحد الدليلين يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر…”ليس المقصود بالمخالفة هنا؛ أنه يخالفه مخالفة تامة، وإنما المقصود نوع مخالفة في الأصــل، وهي التي تسمى عند أهل العلم بـ”التعارض الجزئي” أو (التعارض الظاهري).
مسائل :
التعارض بين الأدلة الشرعية، إنما هو بحسب ما يظهر للمجتهد. أما في حقيقة الأمر فلا تعارض البتة بين الأدلة الشرعية، وذلك لأن أدلة الشرع حق، والحق -في نفسه- لا يتعارض ولا يتناقض1 بل يصدق بعضه بعضا.
لا يقع التعارض بين دليلين قطعيين، سواء كان عقليين أو سمعيين، أو أحدهما من قبيل السمعي والآخر عقلي، وهذا متفق عليه بين العقلاء لأن تعارض القطعيين يلزم منه اجتماع النقيضين وهو محـــال.
لا يقع التعارض بين قطعي وظني.. فالعمل إنما يكون بالقطعي فإن الظن لا يرفع اليقين.
وعليه فمحل التعارض هو الظنيات، فيقع التعارض بين دليلين ظنيين2.
أقســام التعارض: أقسام التعارض أربعــة:
القســم الأول: التعارض بين عامين: مثاله: قوله تعالى لنبيه -عليه الصلاة والسلام- (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) وقوله: (إنك لا تهدي من أحببت) والجمع بينهما أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق وهذه ثابتة للرسول -صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية يراد بها هداية التوفيق للعمل وهذه بيد الله تعالى، لا يملكها الرسول -صلى الله عليه وسلم- و لا غيره.
القسم الثاني: التعارض بين خاصين: مثاله: حديث جابر -رضي الله عنه- (الصحيح) في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر يوم النحر بمكة: وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبــي صلى الله عليه وسلم صلاها بمنى، فيجمع بينهما بأنه صلاها بمكة، ولما خرج إلى منى أعادها بمن فيها من أصحابه.
القسم الثالث: التعارض بين عام وخاص مطلق: مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “فيما سقت السماء العشر” وقولــه: “ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة” فيخصص الأول بالثاني، ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق.
القسم الرابع: التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه.
مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس”، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح -كذلك- “إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين”.
فالأول: “لا صلاة بعد الصبح…” فيه عموم الصلاة، لأن قوله: “لا صلاة” نكرة في سياق النفي فتعم، وفيه خصوص الزمن، وهو ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إذا دخل أحدكم..” فيه عموم الصلاة، وعموم النهي عن الجلوس. ولكن الصلاة هذه خاصة في تحية المسجد، فهذا رجل دخل في وقت النهي، إذا قلنا له: لا تصلِّ، نكون قد أخذنا بعموم النهي: “لا صلاة بعد الصبح…” وإذا قلنا له: صلَّ، نكون قد أخذنا بعموم: “إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجـلس…” فبأيهما نعمـــل؟
الجواب: نقول في هذه الحال: يعمل بهما جميعا في الصورة التي يتفقان فيها، كما إذا دخل المسجد في غير وقت النهي، فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين، ويتوقف في الصورة التي يقع فيها التعارض، إلا إذا وجد ما يؤيد عموم أحدهما، فإننا نعمل به، وهنا وجدنا أن النهي عن الصلاة بعد الصبح قد ورد تخصيصه في عدة مواضع، منها إعادة الجماعة، يعني: لو جئت بعد أن صليت الصبح ووجدت الناس يصلون جماعة فصل معهم، ومنها ركعتا الطواف فإنهما يجوزان في وقت النهي، ومنها سنة الوضوء.. إلى غير ذلك.
فـــائـــــــدة:
هل يشترط المساواة في الثبوت3 بين الدليلين المتعارضين؟
ذهب إلى اشتراطه جماعة من الأصوليين، ومنهم جمهور الحنفية،  والصحيح عدم اشتــراط ذلك. وهو صنيع الجمهور من المحدثين والمفسرين والأصوليين.

النهج الصحيح و الطريق القويم الذي سلكــه العلماء عند التعارض بين الأدلة:
المذهب الذي عمل به العلمــاء واعتمدوه ومشوا عليه هو كالآتي:
الجمع ثم الترجيح وبعدها النسخ4، وذلك عند عدم تيسر الجمع والترجيح بينهما، وعند وجود العلم بتقديم أحدهما على الآخر وتحقق شروط النسخ، ثم التوقــف5.
والترجيــــح (اصطلاحا): “تقوية أحد الدليلين على الآخــر”.

مسائـل:
محل الترجيح: هو الظنيات، فحيث وجد التعارض فقد نقف عند الترجيح، وحيث إن التعارض لا يكون إلا بين الدليلين الظنيين فقط، فكذلك الترجيح لا يكون إلا بين دليلين ظنيين، إذ الترجيح فرع عن التعارض.
لا يجوز ترجيح أحد الدليلين المتعارضين على الآخر بدون دليل، إذ إن ترجيح أحد الدليلين بلا دليل تحكم، وهو باطل، ولا يجوز في دين الله التخيير بالتشهي والهوى بلا دليل ولا برهان.
العمل بالراجح متعين، سواء كان الراجح معلوما أو مظنوناً، هذا هو الواجب على المجتهد إذا اجتهد في طلب الأقوى، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو في هذه الحالة معذور إن أخطأ إصابة الأقوى والأرجح في الباطن، وله أجر على اجتهاده.
عمل المجتهد بالظن الراجح ليس من باب العمل بالظن، بل هو عمل بالعلم،  إذ ترجيح أحد الدليلين الظنيين على الآخر من باب تقوية ظن على ظن، والظن متفاوت، والمطلوب من المجتهد العمل بالظن الراجح، وكون هذا الظن هو الراجح أمر معلوم لدى المجتهد، فأمام المجتهد ظنَّان، ظن يعلم رجحانه، وظن لا يعلم رجحانه، فالعمل بالظن الذي يعلم رجحانه عمل بالعلم لا بالظن، وأما العمل بالظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز، لأنه من اتباع الظن الذي ذمه الله بقوله: (إن يتبعون إلا الظن) (النجم آ 23).
……………………………………..

  1. هل يوجد بين التعارض والتناقض فرق؟ أو هما من قبيل الترادف؟ بسط ذلك محله الكتب المطولة، انظر “التعارض و الترجيح بين الأدلة الشرعية” (من 1/33).
  2. انظر “الكفاية” (474) و”شرح الكوكب المنير” (4/216) و”المذكرة” (316) وإن كان العلماء –أحيانا- يتساهلون في إطلاق لفظة التعارض على غير هذا المجال فتنبه ، فهذا تسامح منهم كأن يطلقوه على (التعارض) بين القطعي و الظني.
  3. أما ما بيناه بخصوص مجــال التعارض أنه في الظنيات فهذا في الدلالة فتنبــه.
  4. وتقديم الترجيح على النسخ أو تقديم هذا الأخير على الأول لا أثر له من الناحية العملية لأنه في حالة عدم تيسر الجمع وتوفرت شروط النسخ يصار إليه ، فيقدم إذن؛ فتأمــل.
  5. والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط انظر “النزهة مع النكت للشيخ علي حسن -حفظه الله- ” (107) فإن التساقط {يوهم الاستمرار مع أن الأمر ليس كذلك، لأن سقوط حكمهما إنما هو لعدم ظهور ترجيح أحدهما حينئذ، ولا يلزم منه استمرار التساقط، مع أن إطلاق (التساقط) على الأدلة الشرعية خارج عن سنن الآداب السنية} شرح القاري (105). وليعلم أن كثيرا ما يذكر العلماء في مسألة ما توقفهم فيها ويكون المقصود بذلك الخروج من الخلاف والشبهة احتياطا. كما صنع الشوكاني -رحمه الله- في رسالته في السماع (وإن كان القول الصحيح الواضح خلاف ما بيَّن في هذه المسألة بعينها، لكن هذا من باب المثال، والمثال لا يناقش).

لطيفـــة: “وكان الإمام أبو بكر ابن خزيمة -رحمه الله- يقول: ليس ثمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتني لأؤلف بينهما” اهـ. الباعث الحثيث للعلامة أحمد شاكر -رحمه الله- (2/484).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *