من يتابع المهرجانات السينمائية وما تنتجه القنوات المغربية وعلى وجه الخصوص القناة الثانية الفرنكوفونية، وكذا ما ينتجه المركز السينمائي المغربي، يدرك مدى تغول تيار الاستغراب في بنيتنا الثقافية والإعلامية، ويتملكه اليقين بأن من يقف وراء تدبير هذه المؤسسات العمومية لا يراعي الثقافة المغربية، ولا يخدم قضايا الشعب المغربي.
كما يتأكد لديه كذلك، أن من يعنى بشؤون ثقافتنا لا يصدر من فراغ فيما ينتجه لهذا الشعب، بل تؤطر عمله رؤية فكرية وُضِعت لتستجيب لإيديولوجيا معينة، تخدم في النهاية مصالح “لوبيات” اقتصادية لها امتدادات خارجية تحرص على حمايتها سياسيا، وتوفر لها التغطية التي تأخذ في كثير من الأحيان صورة التعمية عن الشعب، للحيلولة دون انكشاف الخيوط الرابطة بين ما هو ثقافي وما هو اقتصادي/ سياسي.
ولعل من أهم الوسائل التي تستخدمها جبهة أنصار “ثقافة” الغرب في بلادنا، تتمثل في الترويج لمصطلحات يكتنفها الغموض من قبيل “حرية الابداع” و”الانفتاح” على ثقافات العالم، متخذين هذا الغموض استراتيجية تمكنهم من إتلاف معاني تلك المصطلحات وتُيسر لهم تدمير حدودها، ليسهل عليهم اللعب بها إعلاميا وفكريا وسياسيا، وبالشكل الذي لا يحدث كبير ممانعة عند الشعب، ويديم غفلته عما يقترفه المفسدون في بيئته من تغييرات تمس أهم وأخطر بنياته، فيصبح كل من ينتقد منتجات المستغربين نصرة لهويته ودينه إنسانا متطرفا ومنغلقا.
وأخطر ما ترتب عن الترويج للمصطلحات الغامضة الملتبسة هو محاولة حماية هذا العبث بمقومات هويتنا وشرعنة هذا التسيب والانحلال الطارئ على مجتمعنا، سواء في المجال “الفني” أو الأدبي، وذلك بنشر مقولات مغالية في ليبراليتها مع الحرص على تصويبها ودعمها في الإعلام العلماني المستغرب، ومن تلك المقولات: “الفن لا يعترف بالقيود، ولا يخضع للرقابة، ولا يعرف خطوطا حمراء، ولا يتقيد إلا بالإبداع”، ومنها: “لا دخل للدين في الفن”، “الدين مكانه المسجد وليس السينما أو المسرح أو الأدب”.
ولا يخفى أن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن شخص يعي معنى كونه مسلما، ويعرف أحكام الإسلام ومقتضيات الإيمان، بل لا تصدر عن عقل يدرك العلاقة بين الدين والثقافة، قال العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى في معرض جداله مع مستغربي مصر: (فأذكرك بقول “إليوت”(1)..وزعمه أن ثقافة الشعب، ودين الشعب مظهران مختلفان لشيء واحد، وأنهما تجسيد لهذا الدين، وأن من الممكن أن تجتذب قوما إلى إيمان ديني بعينه، بوساطة نشر الثقافة التي تجسد هذا الدين، وهذا هو “التبشير الثقافي”.)أباطيل وأسمار ص 504.
فأي “تبشير ثقافي” يقوم به المستغربون في بلادنا وبأموالنا؟
وإلى أي دين يجتذبون المغاربة بمنتجاتهم الطافحة بمشاهد التهتك والتفسخ والكلام الساقط والجرأة على الإسلام؟
وإلى متى يترك تيار الإفساد النافذ في مؤسسات إنتاج المواد الفنية أو دعم الإبداعات الأدبية في بلادنا، يسخر الميزانيات المرصودة لهذه القطاعات في خدمة توجه فكري علماني أخذ على عاتقه أن تحتل الثقافة الغربية مكان ثقافتنا؟
إن أولى مظاهر الفساد بالمحاربة إذا ما كانت هناك نية للإصلاح، هي تلك المظاهر التي تطغى على مجالي الإعلام والفن، اللذين يعملان يوميا ومنذ عقود من خلال ما ينتجانه من مواد على إعادة تشكيل الذوق العام عند المغاربة، وإرساء منظومة أخلاقية بمعايير علمانية تضرب في العمق هويتنا وديننا وتاريخنا، في محاكاة ببغاوية، ونسخ لما ينتج في المجالين نفسيهما لدى الدول الغربية التي وضعت جوائز دولية لتشجيع الأعمال “الفنية” السينمائية والأدبية، حتى توجه إبداعات البلدان المتخلفة نحو ثقافتها تكريسا لعملية المسخ والتبعية.
فالغرب يعي جيدا أن الاستلاب الثقافي أهم وسيلة للإبقاء على ولاء الشعوب المتخلفة لبلدانه وهذا ما يفسر دعمه للمجالين الفني والأدبي في بلداننا العربية والإسلامية، يقول مؤرخ الفنون الأمريكي أورين بانوفسكي: «إن السينما سواء أحببنا أم لم نحب، هي القوة التي تصوغ أكثر من أي قوة أخرى الآراء والأذواق واللغة والزي والسلوك، بل حتى المظهر البدني لجمهور يضم أكثر من ستين بالمئة من سكان الأرض»(2).
فبالجوائز والتمويلات نجح الغربيون في إيجاد حفنة من المخرجين من أبناء جلدتنا تقوم بالوكالة عنهم في تدمير قيم الدين وتتفيه الشباب ونشر ثقافة المجون وترسيخ الاستهتار بقيم العفة من خلال مشاهد العهر والدياثة والشذوذ.
وإذا ما انتقدوا ادَّعوا أنهم لا يتجاوزون عرض ما هو موجود في الواقع، لكن عملهم في الحقيقة هو استجابة إما لإملاءات مصادر التمويل، أو طمع في نيل الجوائز الدولية، فهذا المخرج التونسي أحمد الجميعي -وهو مقيم في فرنسا- يصرح عند سُؤاله عن رأيه في مجموعة من الأفلام الممولة فرنسياً، المشوِّهة لبلاد المسلمين، المملوءة بإيحاءات الجنس والشذوذ قال: «إن الفرنسيين يفرضون نوعيات معينة من الموضوعات ويموِّلونها ويهللون لمخرجيها». (3)
ولا شك أن الدور المريب والملتبس الذي يقوم به تيار الاستغراب في مجال الثقافة، هو الذي جعل المدير العام للمركز السينمائي المغربي نور الدين الصايل يظهر انفعالا كبيرا خلال اليوم الختامي للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، عند كلامه عن المشاهد الجنسية التي تتضمنها الأفلام المغربية والتي لاقت احتجاجات كبيرة من طرف بعض النقاد، رافضا اعتبارها مشاهد عري أو وصفها بالإباحية. {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً، يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}النساء.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل
ــــــــــــــــــــــ
(1) شاعر ومسرحي وناقد أدبي حائزٌ على جائزة نوبل في الأدب في سنة 1948م ولد في أمريكا 26 سبتمبر1888 م ثم انتقل إلى بريطانيا وتوفي في 4 يناير 1965م.
(2) السينما آلة وفن، ألبرت فلتون، ترجمة صلاح عز الدين وفؤاد كامل، تقديم عبد الحليم البشلاوي ص7 .
(3) مجلة الكواكب 18/10/1994.