استضاف راديو أصوات في برنامج ضيف المساء يومه الجمعة 09/12/2011 وزير الاقتصاد والمالية والأمين العام للتجمع الوطني للأحرار صلاح الدين مزوار؛ وفي ثنايا الكلام وحين أثير النقاش حول فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات الأخيرة وموقف الوزير من هذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية؛ كرر الوزير الاسطوانة القديمة التي استنفدها اليسار؛ وأكد معارضته الشديدة لاستخدام الدين في السياسة؛ واعتبر مزوار أن من الخطوط الحمراء التي يؤمن بها: إبعاد الدين عن السياسة وعدم الخلط بينهما؛ وعبر بقوله (بالدارجة):
“أنا إنسان هادْ الحاجة عمري ما نحيدها من رأسي: خلط الدين بالسياسة؛ أخطر ما يمكن أن يتم في الممارسة السياسية والديمقراطية ديال الدول، كنعتبر بأنه بلادنا مادام فيها هذا الخلط ما بين الدين والسياسة كنعتبرُ أكبر خطر على المجتمع المغربي؛ وغادي نبقا نحاربو؛ إذن الخط الأحمر بالنسبة لي هو أي حزب يخلط الدين بالسياسة؛ بالنسبة لي خط أحمر..هذا موقفي وهذه قناعتي وسأبقى أدافع عليها؛ والإنسان لي ما عندوش قناعات يمشي يدير شحاجة أخرى”.
فبتتبع الخرجات والتصريحات الإعلامية للأمين العام للتجمع الوطني للأحرار -خاصة خلال الحملة الانتخابية الماضية- حول الحجاب والمرأة والسياسة والدين وغيرها من المواضيع ذات الارتباط الوثيق بالشريعة الإسلامية يتبين لنا أن وزير المالية المنتهية صلاحيته أصبح يقوم بنفس الدور الذي كان يضطلع به اليسار البائد؛ وبات مصرا أكثر من أي وقت مضى على الدفاع عن منظومة علمانية ثبتت فشلها على أرض الواقع بسقوط أنظمة الظلم والطغيان والحاكمين شعوبهم بالحديد والنار.
فالمنطق والعقل والدين يفرض علينا جميعا -إن كنا مسلمين كما ندعي- أن نتحاكم في خلافاتنا ونزاعتنا وما يحل بنا من نوازل إلى مرجعية لا خلاف فيها بيننا جميعا كمسلمين؛ مرجعية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ قال الحق سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).
وأظن أن الإجماع منعقد بين العلماء كافة أن الإنسان لا يصير مسلما أصلا إلا إذا أقر بأن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة بما اشتملا عليه من عقائد وسلوك وأحكام شرعية تفصيلية وحي من عند الله تعالى.
فإذا اتفقنا على ذلك ابتداء يستحيل أن يقع بيننا خلاف في الأصول والمحكمات، لكن إذا تنازعنا في مصداقية هذه الأصول والمحكمات؛ وقع بيننا خلاف وشقاق وتدابر لا محالة، فهذا هو موطن الداء وأصل الخلاف وبه وجب الابتداء؛ أي تفصيل فهمنا للإسلام الذي ندعي جميعا الانتماء إليه.
فالإسلام كل لا يتجزأ؛ لا يمكن أن يكون المسلم مسلما في المسجد أو البيت أو الأسرة؛ ثم يكون علمانيا ليبراليا أو اشتراكيا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن؛ ذلك أنه من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة وجوب الدخول في دين الله كافة؛ قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)؛ قال ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسير القرآن العظيم عند تفسير هذه الآية: “أمرَ اللهُ عبادَه المؤمنين المُصدِّقين برسوله أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعِه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجِره. وقال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ): يعني: الإسلام، وقوله: (كَافَّةً): أي: اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البرِّ”.
هكذا نفهم الإسلام؛ وهكذا فهمه صحابة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى ليعلمنا كل أمورنا؛ وهو معنى أدركه يهودي في المدينة حين سأل سلمان الفارسي مستهزئا: “لقد علّمكم رسولكم كل شيء حتى الِخراءة”؛ فرد عليه سلمان بثقة وثبات المؤمن: (نعم علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جئنا إلى الغائط ألا نستقبل القبلة أو نستدبرها).. الحديث.
فهل يعقل أن يعلمنا رسولنا أدب دخول المرحاض ولا يعلمنا كيف نمارس السياسة وننظم تعاملاتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟!
هذا محال؛ وهذا ما لا يقبله عقل أصلا؛ وينفيه الدين والتاريخ والواقع؛ اللهم إلا إذا كنا ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
فرغم وضوح معنى الإسلام لغة وشرعا؛ وتنظيمه لكل مجالات الحياة؛ إلا أن المنهج الذي تسير عليه معظم الأحزاب الوطنية مؤسس على فصل السياسة عن الدين، ورفع شعار “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”!! وذلك كي يتفلتوا من تطبيق الأحكام الشرعية التي نصت عليها نصوص القرآن والسنة؛ ومحاصرة المطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية وإبقائهم خارج دائرة النقاش.
وهو موقف مخالف تماما لأصل الإسلام؛ بل هو مناقض لعقيدة المسلمين في الربوبية والألوهية، إذ يستحيل في شرعنا الحنيف السمح “الفصل بين الدين والحياة على مستوى الفرد والجماعة، فالرب هو الآمر الناهي السيد المطاع، وهو المشرع للعباد -كما هو من معاني الربوبية-، ويجب أن يعتقدوا ذلك فيه كما يجب أن يتحاكموا إليه في سائر شؤونهم ونظمهم، فمن أسماء الله تعالى: الحكم”.
وخلاصة القول وما نود توضيحه في هذا المقام أن هذه اللوثة الفكرية -فصل الدين عن السياسة- ما تسللت إلى بلدنا وبلاد المسلمين عموما إلا بعد دخول الاحتلال الغربي؛ وعمله على صبغ مجتمعات المسلمين بالصبغة الغربية؛ المؤسسة على نظرتهم لله والكون واللإنسان؛ أما في شريعتنا التي حكمتنا أربعة عشر قرنا فلا مساحة فيها لمثل هذا الافتراء الذي لا يستند إلى أساس؛ اللهم إلا إنكار وجود الخالق والصد عن شريعته ومنعها من تأطير شؤون أتباعها.
نبيل غزال