ما لا يفهمه العلمانيون (على هامش النقاش الدائر بسويسرا)

عقب كل القرارات التي تتخذها بعض الدول الغربية للحفاظ على هويتها العلمانية السياسية والثقافية والتاريخية تثار نقاشات وسط النخبة الإعلامية والثقافية وشبه الثقافية المغربية فينقسم حولها المشهد إلى موقفين بارزين:

-الأول ينافح عن هوية المسلمين القاطنين في البلدان الغربية ويحاول أن يقف مع إخوانه المبتلين بالسكن في تلك الدول، حيث أصبحوا يعيشون تضييقا ملموسا وباستمرار، ويكافحون للحيلولة دون ذوبانهم في الحضارة المادية العلمانية لبلدان الغرب.
-أما الثاني فيطالب المسلمين هناك بالاندماج الكلي في الثقافة والمجتمع الغربيين وألا يفكروا في الحفاظ على خصوصيتهم وهويتهم ماداموا يعيشون في بلادهم، كما يطالبهم بالتخلي عن دينهم أو الخروج من بلدان الغرب معتبرا أن المسلمين لم يفهموا “بعد بأن عليهم الاختيار الحاسم بين الإسلام كما تروج له العشائر النفطية، وبين الديمقراطية الغربية التي ينعمون بها، ولا مجال أبدا للتوفيق بينهما لأنهما نقيضان لا يلتقيان. ولا خيار لهم في حالة التشبث بالإسلام السلفي البدوي إلا مغادرة البلاد الغربية إلى “دار الإسلام” فمسلمو سويسرا والغرب عموما يريدون “استعادة الإسلام الصافي والنقي كما هو في منابعه الأصلية مكة والمدينة المنورة أي بلاد الحجاز، وبرواية وتفسير علماء السلف” أحمد عصيد مقال بعنوان “مالا يفهمه المسلمون” الجريدة الأولى ع478/08 دجنبر2009م.
موقف الفريق الثاني يمثله العلمانيون لوحدهم، كما أنه الموقف ذاته من كل القضايا التي يدور الصراع فيها بين الإسلام والعلمانية سواء في بلاد المهجر كقضية الحجاب/ النقاب/ الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو الوطنية كقضية عبدة الشيطان/شواذ القصر الكبير/ضحايا تسونامي/الإفطار في نهار رمضان (حركة مالي)/جمعية “كيف كيف” للواطيين/جمعية “لا خاضعات ولا مومسات”/الأفلام المغربية مثل “ماروك”، و”كازانيكرا” و”الرجل الذي باع العالم”.
مواقفهم في كل القضايا متشابهة، تطالب بإخضاع الديني للعلماني، والأصيل للحداثي، والإيماني للعقلاني، ويقيمون بشكل تعسفي تناقضا وهميا بين العقل والدين، فيجعلون ما هو عقلاني بالضرورة يكون حداثيا ومتنورا، بينما ما هو ديني فأوصاف الرجعية والانغلاق والتزمت والسلفية النكوصية، والوهابية المتشددة المتطرفة ملازمة له غير منفكة عنه حتى يقبل بالديمقراطية بمفاهيمها الغربية وفلسفاتها المادية، ويؤمن بحقوق الإنسان كما وضعتها الدول الإمبريالية في دجنبر 1948، ويكفر بالمقابل بإلزامية الامتثال لنصوص القرآن الكريم والسنة، وإذا آمن بهما فعليه أن يحتفظ بذلك لنفسه كحق فردي لا يقبل إضفاء صفة العموم عليه، ولا يعمل من أجل أن تتضمنه القوانين والتنظيمات.
وبدورنا نقول:
-ما لم يفهمه العلمانيون بعد هو أن المسلم -وليس الإسلامي فقط- يعي جيدا أنه ليس في الإسلام مسلم مطبق ومسلم غير مطبق على غرار نصراني مطبق ونصراني غير مطبق التي خولت للعلمانية أن تهيمن في الغرب، فالإسلام ملزم لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومعناه: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، ولا يخالف في هذا مالكي ولا حنبلي ولا غيرهما، بل هو إجماع مر عليه خمسة عشر قرنا لم يخالف فيه إلا العلمانيون ولا عبرة بخلافهم.
-ما لم يفهمه العلمانيون بعد هو أن المسلم اليوم أصبح أكثر فهما لدينه من جهة، وأكثر وعيا بالاتجاهات الفكرية المناقضة له من جهة أخرى، ولم تعد تنطلي عليه العلمانية ولو توشحت بالمبادئ البراقة مثل التسامح والتنوع والانفتاح فالأسامي واحدة لكن المسميات مختلفة باختلاف المرجعيات.
-ما لم يفهمه العلمانيون هو أن المسلم بات لديه من مصادر العلم ما لا يمكن معه أن تنطلي عليه أكاذيب العلمانيين، كنعتهم لكل عمل يمت إلى الإسلام النقي الصافي كالنقاب أو الحجاب أو اللحية أو الدعوة إلى تطبيق الشريعة بكونه وهابيا تدعمه “الوهابية العالمية المسلحة بالثروة النفطية” كما قال عصيد، في محاولة لاتهام كل من يدعو إلى ذلك بأنه موال لنظام غير نظام بلده ومعتنق للوهابية التي تتهم زورا بأنها أنتجت أمثال بن لادن ومن معه.
ونسائلهم كيف يمكن أن نقرأ دلالة الحايك أليس نقابا؟ وكيف يمكن أن نفسر اللحى التي كانت تكسو وجوه الملوك والعلماء والصدور العظام والوزراء والحُجَّاب والدبلوماسيين المغاربة وعوام الناس وكذا تطبيق الشريعة طيلة خمسة عشر قرنا؟ أليس ذلك كله امتثال لنصوص الشرع؟ والتي لم يتوقف العمل بها إلا عندما تم استنبات العلمانية من طرف الفرنسيين المستخربين، وعلى أحمد عصيد ورفاقهم العلمانيين أن يستنطقوا المراجع التاريخية والصور الوثائقية إن كانوا جاهلين بشرط ألا يستصحبوا معهم المادية التاريخية كمنهج، فصاحبها لا يقر بالحقائق التاريخية خصوصا ما تعلق منها بالدين إلا في إطار عقيدته “الدين أفيون الشعوب”.
-ما لم يفهمه العلمانيون أيضا هو أن المسلم الواعي اليوم هو من يعيد قراءة ما تسلل إلى عقله من مفاهيم أفرزتها أحقاب الصراع بين الفكر الغربي والإسلام، ومكن لها بالقوة في قوانين البلاد ومناهجها التعليمية، من قبيل أن حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها في الغرب -وليس عالميا-، لا تتعارض مع الإسلام وشريعته، رغم أنها تنظر إلى كل الحدود الشرعية على أنها عقوبات وحشية، وتعتبر اشتراط الولي في عقد الزواج وتحريم ممارسة الزنا خارج مؤسسة الزواج، وأحكام الإرث وتحريم زواج المرأة بالكتابي أو الكافر أشكالا من التمييز بين الرجل والمرأة.
فكيف يقبل المسلم بالعهود الدولية لحقوق الإنسان، والتي تَحرم المسلمين حتى من تأويل نصوصها كما هو وارد في المادة (30) من إعلانات حقوق الإنسان التي تنص على أنه: «ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أية دولة أو جماعة أو أي فرد، أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه».
فبهذه المادة يصرح واضعوا هذه العهود أنها لا تقبل أي تأويل قد تستند إليه دولة ما من أجل حماية مقوماتها فتمتنع عن تبني بعض المواد التي تراها تناقض هويتها، وتشرع من القوانين ما يخالفها، بمعنى آخر لا هوية إلا الهوية الغربية ولا دين إلا العلمانية ولا شريعة إلا ما نصت عليه عهودهم ومواثيقهم، حيث لم يتركوا ولو مجرد إمكانية التأويل لنصوصهم فهي عندهم مقدسة، وعلى الدول أن تلائم قوانينها وشرائعها مع ما تنص هي عليه حرفيا دون تأويل.
فكيف إذن، مع وجود هذه القيود، يمكن الاحتجاج بتطبيق الحدود الشرعية بالنسبة للدول التي لا تزال تحترمها أو تلك التي قد تنوي الرجوع إليها في مواجهة حقوق الإنسان، فهي إما أن تتخلى عن تطبيق ما جاء في القرآن فتصبح دولة ديمقراطية وتفوز برضى الغرب ومنظماته، وإما أن تتشبث بالقرآن وأحكامه وحدوده، فتبقى رجعية ديكتاتورية.
ومن ثمة ليس هناك سوى الإذعان والانخراط اللامشروط، ولو على حساب الدين والهوية والتاريخ.

-ما لا يفهمه العلمانيون أو ما لا يحبون أن يعترفوا به هو أن العلمانية في البلدان الإسلامية تتساقط كأوراق الخريف، وأن قوتها اليوم مستمدة من الظلم والاستبداد والقهر والكبت والتواطؤ مع الدول “الدكتوقراطية” الغربية التي تفرض على الدول الإسلامية ما يحلو لها فقط من مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحمي من الديكتاتورية ما يحول دون انتشار الإسلام والتمكين له، ويضمن استمرار التخلف والجهل والخرافة والدجل.
والعلمانيون سواء كانوا اشتراكيين أو ليبراليين أو هجين بين هذا وذاك هم متواطئون إلى قفاهم، وعلى من يريد قليلا من الحق ولو في أحلام بعضهم، عليه أن يقرأ خطاب افتتاح أشغال المجلس الوطني للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كما حلم به أبو بكر الجامعي في أخبار اليوم المغربية نقلا عن “لو جورنال”.
-ما لا يفهمه العلمانيون المساكين أن الغرب لا يحارب الإسلام لأنه دين دموي إرهابي أو منغلق، أو لأنه مخالف للديمقراطية أو حقوق الإنسان، فهم يعلمون من خلال دراستهم لتاريخ الإسلام وعلومه أن البشرية لم تكن في يوم من الأيام أسعد ولا أأمن من سنواتها الطوال التي عاشتها في ظل هيمنة الإسلام على قرابة ثلثي الكرة الأرضية، وإنما يحاربونه لأن له قدرة كامنة فيه على الهيمنة على كل نظم العالم، ولأنه دين عالمي كوني متجدد يستجيب للفطرة السليمة، لكونه آخر رسالة لله سبحانه إلى خلقه أودعه الله قدرة على إصلاح كل زمان ومكان، دون حاجة إلى تحريف أو تأويل يخرج أحكامه عن معنى العبودية لله بما شرع ورضي، فهم يعلمون ذلك كله ويكذبون، وصدق الله القائل سبحانه: “قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ”الأنعام.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *