إننا عندما نصوت بـ “نعم” على الدستور نريد أن نرى تجليات الفقرة الثالثة من الفصل الأول من الباب الأول من الدستور الجديد التي تقرر ما يلي: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”، ونتطلع إلى أن تغطي أحكام الدين الإسلامي بظلالها الوارفة مجالات هذه الحياة العامة، وأن تُحكَّم الشريعة الإسلامية في مناحي الميادين العامة، وألا يطغى الاختيار الديمقراطي الذي تدعمه القوانين على أحكام الدين الإسلامي الذي يُتجه به كما هو الحال قبل الدستور الجديد إلى أن يصير حبيس جدران المساجد.
جدال كبير سبق يوم الجمعة موعد الاستفتاء حول الدستور، هَمَّ بالخصوص جانب الهوية بعد أن تسربت أخبار تفيد أن اللجنة المكلفة بوضع مسودة الدستور الجديد قد مست بهوية البلاد الإسلامية، الأمر الذي جعل العديد من الفعاليات السياسية والجمعوية والدينية تنتفض بقوة مهددة بالتصويت بـ “لا” وتعبئة المواطنين للإدلاء بلاءاتهم إن مست هوية البلاد، وبعد الإعلان عن مشروع الدستور تبين أن الهوية تم الحفاظ عنها، كما تسربت أخبار أكدها حقوقيون تفيد أن المسودة تم تعديلها من طرف القصر.
المهم أن الصراع حول الهوية عكس بوضوح أن مسألة الدستور الجديد كانت محطة صراع بين المدافعين عن المرجعية الإسلامية للبلاد والممثلة في الأحزاب والجماعات والحركات الإسلامية وعموم الشعب المغربي الغيور على تاريخه ودينه وبين الفعاليات العلمانية الممثلة في أغلب الأحزاب السياسية وجل الجمعيات والمنظمات الحقوقية ذات التوجه العلماني وكذا أحزاب اليسار المتطرف.
إلا أن “التآلف” الظرفي بين كل من جماعة العدل والإحسان ذات التوجه الصوفي وأحزاب اليسار المتطرف بمنظماته الحقوقية والجمعوية شغب نسبيا على وضوح المفاصلة بين التوجهات الإسلامية والعلمانية في قضية المرجعية الإسلامية، والغريب أن موقف الجانبين الرافض لنظام الحكم من حيث المبدأ وتبنيهما للتصادم معه كاستراتيجية في الممارسة السياسية استطاع أن يفرز هذا “التآلف” رغم التناقض الإيديولوجي بينهما.
لكن قوة المواجهة بين أصحاب المرجعية الإسلامية ودعاة العلمنة سرعان ما ضعفت ليهيمن التوافق حول الدستور الجديد، ويختفي غبار التدافع خلف “نعم”.
فهل يعني هذا أن الصراع بين المرجعيتين الإسلامية والعلمانية قد انتهى بمجرد التوافق “الإجرائي”؟
وهل يعني هذا التوافق أن الدستور استطاع أن يلبي مطالب الطرفين معا؟
سؤالان ليسا من قبيل الإنكار فقط، وإنما الهدف من طرحهما توضيح مدى قدرة اللعبة السياسية على الجمع بين المتناقضات والتوفيق بين الحساسيات المتناحرة، إذ كيف يمكن أن نفهم الموقف الإيجابي للأحزاب والحركات الإسلامية والمتمثل في الإشادة بالدستور الجديد والدعوة إلى التصويت له “بنعم”، موقف يتناغم مع الاحتفاء الكبير للأحزاب العلمانية كالتقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي به والذي وصل إلى حد تصريح الأمين العام لهذا الأخير بأن الدستور الجديد يستجيب لـ 97 في المائة من مطالب الحزب.
فلماذا كان مشروع الدستور هذا محل إجماع القوى السياسية والوطنية ماعدا أصحاب ما أسميناه بالتآلف الظرفي؟
الحقيقة الأقرب لتفسير هذا الإجماع ربما تكمن في كون الدستور يفتح كل الأبواب ويَرْكب على العمومات التي تجعل مختلف الفاعلين مقتنعين أنها تستوعب بعض مطالبهم وتعطيهم الأمل في العمل على تحقيق بعضها الآخر، من خلال ما تنص عليه بنود الدستور من حريات وضمانات.
فالدستور الجديد حصل على الإجماع لأنه فتح شهية الأطراف -بما تضمنه من مقتضيات جديدة- للتنافس والسباق من أجل الحصول على الآليات والمواقع داخل المجال السياسي والحقوقي والثقافي والاجتماعي ليتسنى له ممارسة ذلك التأثير على “الإرادة السياسية” لتعمل لصالح مشروعه وإيديولوجيته ونظرته للإصلاح.
لكن مع ذلك نرى أن الدستور يبقى في كل الأحوال نصا جامدا لا يتحرك منه إلا ما تريده “الإرادة السياسية” للحاكمين أن يتحرك، وهذه “الإرادة السياسية” تخضع دائما لمؤثرات وطنية ودولية تجعلها تؤيد مَن يترجح لديها أنه يخدم مصلحتها أو تعارض من يغلب على ظنها أنه لن يخدم مصالحها المرحلية.
إذا فالدستور الجديد سيكون لصالح من يملك في المستقبل القدرة السياسية والقانونية ويملك القوة المجتمعية التي ستلعب الدور الأقوى في توجيه تفسير عمومات نصوص الدستور (المحكمة الدستورية) وفي تحديد مضامين القوانين التنظيمية الكثيرة التي سترى النور خلال الولاية التشريعية القادمة.
إننا نأمل أن لا تقلب السلطات حروف “نَـ ـعَـ ـمْ” التي صوتت بها التيارات الإسلامية لصالح الدستور الجديد هذه لتصبح “مَـ ـنْـ ـع”بعد إقرار الدستور: منع جمعيات الإسلاميين، منع الأنشطة الدعوية للشباب الملتزم، منع الترخيص للأشخاص ذوي التوجهات الإسلامية من إنشاء جمعيات جديدة.
فالواجب على الدولة في مرحلة ما بعد إقرار الدستور الجديد أن توفر كل الأجواء الإيجابية وأن تتحلى بالنضج السياسي الذي يجعلنا نقطع مع كل الممارسات التي عرفناها قبل الإستفتاء والتي تمثلت بالخصوص في التضييق على التيارات الإسلامية بالاعتقالات التعسفية الواسعة قصد الإجبار على تغيير القناعات والأفكار، وفي مصادرة حقوقها في تنظيم المواطنين والذي تجلى في إغلاق وتجميد نشاط أكثر من 67 جمعية ودارا للقرآن، وفي ممارسة الترهيب من خلال كثرة الاستدعاءات إلى مخافر الشرطة وتكرار البحث مع أبناء التيارات الإسلامية دون غيرهم من أتباع التيارات العلمانية.
كما نأمل أن نرى مقومات الهوية الإسلامية مجسدة في شكل ملاءمة للقوانين المنافية لهذه المقومات علما أن ما تضمنه الدستور من بنود ومقتضيات تجعل من شأن الاستمرار في العمل بتلك القوانين السابقة خرقا للدستور الجديد.
فنحن كمسلمين عندما نصوت بـ “نعم” نتطلع إلى ترجمة عبارة “المملكة المغربية دولة إسلامية” المضمنة في ديباجة الدستور إلى حقيقة على أرض الواقع، حقيقة تأخذ شكل تعديلات جذرية لكل القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية حتى تختفي كل الممارسات وكل المظاهر المنافية لإسلامية الدولة.
إننا عندما نصوت بـ “نعم” على الدستور نريد أن نرى تجليات الفقرة الثالثة من الفصل الأول من الباب الأول من الدستور الجديد التي تقرر ما يلي: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”، ونتطلع إلى أن تغطي أحكام الدين الإسلامي بظلالها الوارفة مجالات هذه الحياة العامة، وأن تُحكَّم الشريعة الإسلامية في مناحي الميادين العامة، وألا يطغى الاختيار الديمقراطي الذي تدعمه القوانين على أحكام الدين الإسلامي الذي يُتجه به كما هو الحال قبل الدستور الجديد إلى أن يصير حبيس جدران المساجد.
إننا عندما نصوت بـ”نعم” على الدستور الجديد نطمح إلى أن نرى مجلسا علميا أعلى فاعلا بقوة في حياتنا العامة؛ مجلس يقطع مع سياسة البصم والتسويغ، ويتبنى سياسة يمارس من خلالها دوره كاملا في حماية مقومات الدين الإسلامي وأحكامه من أن تنتهك في غمرة التدافع السياسي بين الفرقاء، خصوصا وأن الدستور الجديد قد أعطى صلاحيات لأمينه العام في اقتراح أعضاء في مؤسسات دستورية ومجالس عليا كالمحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومجلس الوصاية. نريد أن نرى مجلسا علميا يستجيب لحاجيات المواطنين الدينية وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، في استقلال تام عن أي سلطة عمومية غير خاضع للإكراهات السياسية.
فـ”نعم” تعني العمل على الرجوع بالأمة إلى هويتها.
“نعم” تعني القطيعة مع الفساد ومحاربة المفسدين.
“نعم” تعني توزيع الثروات بين المواطنين بالعدل والسوية.
“نعم” تعني أن يتقلد خيارنا أمورنا العامة، وأن يمنع شرارنا من الفساد والإفساد.
لكن رغم كل ما تعنيه “نعم” من تفاؤل في غد أفضل، إلا أننا نحذر من التركيبة المخيفة للدستور الجديد والتي تمزج بين توسيع مجالات ومظاهر الخيار الديمقراطي الذي صفق له العلمانيون والغرب لأنه يمكنهم من لَيِّ عنقه اتجاه المزيد من علمنة البلاد ومسخ هوية العباد، وبين التأكيد على الدين الإسلامي كعنصر أساسي من عناصر الهوية المغربية وضابط من الضوابط التي يفترض فيها أن تكبح جماح الخيار الديمقراطي وتحد من جنوحه نحو العلمانية المكشوفة.
وتحذيرنا هذا ليس من قبيل الهواجس التي تستفزها تصريحات متطرفي العلمانيين، وإنما هو نابع من تقديرنا للقوة التي يمتلكها التيار العلماني المهيمن على الإعلام والثقافة والاقتصاد والذي يستمد قوته من الدعم الغربي المشروط، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل