أظهرت التطورات التي عرفتها أرض فلسطين المحتضنة بين جنباتها المسجد الأقصى السليب أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم -خصوصا على الصعيد الداخلي- تمايزا واضحا بين صفين: الصف الأول مسلم غيور مجاهد يعرف أن قضية فلسطين ليست قضيته هو وحده بوصفه فلسطيني المولد والنشأة، بل هي قضية أمة مسلمة ترى فيه بقية مَن استشهدوا في معركة فتحها أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخلف من ماتوا فداء لاسترجاع القدس من أيدي الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، فهو يطالب نفسه ولا أحد يكرهه بالصمود والمقاومة وإن حوصر وشرد وتناثرت أشلاء أطفاله بين عينيه، أو هدم بيته أو مزق جسده.
أما الصف الآخر فعلماني يقف إلى جانب العدو، لأن عقلانيته تبيح له خذلان الإخوة ما داموا يحافظون على العهد، وقيم حداثته تسمح له بالتعايش مع محتل غاصب للعرض قبل الأرض، وواقعيته تفرض عليه أن يتسامح مع مجرمي الحرب سفاكي دماء النساء الثكالى والأطفال اليتامى.
فلسطين هي مرآة الأمة المسلمة تعكس سوآتها المكشوفة.
فلسطين هي الفاضحة لخذلان أقوام تبنوا العلمانية دينا بدل الإسلام.
فلسطين هي الكاشفة لخسة أنظمة تقتات على فتات موائد المحتل الغاصب كي تستر الفساد المستشري في حكوماتها مقابل التنصل من الدفاع عن دينها وأمتها.
فلسطين هي امتداد لتاريخ حافل من المعارك بين الإيمان والكفر والصدق والنفاق.
إن سلوك علمانيي أفغانستان والعراق وفلسطين يعطي درسا بالغ الأهمية للمسلمين في باقي الدول الإسلامية حكومات وشعوبا -والمغرب واحد منها- مفاده: أن أي تفريط أو تساهل في محاربة الهيمنة العلمانية ستكون عواقبه وخيمة، فالعلمانيون لا يؤمنون بما وراء الطبيعة من جنة ونار وحساب، مما يجعلهم دائما مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل أن يعيشوا جنتهم فوق الأرض، فالخيانة والخذلان والتطبيع مع الأعداء وكل أنواع الغدر مهما أوغلت في الخسة وانحدرت في السفالة ما دامت تحقق نفعا ماديا يخفف وطأة الفقر المعشش في قلوبهم فهي واقعية وعقلانية.
والعجب كل العجب أنه لا يزال للعلمانيين بقية من صفاقة وجه كي يرفعوا أصواتهم بشعارات من قبيل “العلمانية هي الحل في العراق وفلسطين” (جريدة الأحداث).
فيا ترى في أي صف سيقف العلمانيون في المغرب إذا ما قدّر عليه ما تعانيه فلسطين والعراق -لا سمح الله-؟
أفي صف المحتل العلماني الحداثي؟
أم في صف المدافعين عن قيم الهوية والدين والأخلاق؟
لا شك أنهم سيقفون في صف المحتل العلماني الحداثي، لاتحاد المرجعيتين من جهة، ومن جهة ثانية لحاجة المحتل إليهم كي يشكلوا حكومته العميلة تماما كحكومة العراق الجريح، ولأنهم تواقون إلى الحكم وما يستتبعه من استغلال للثروات من جهة ثالثة.
ربما استطعنا أن نجد دليل الجواب صريحا في مقدمة النداء الذي أطلقه العلمانيون من أجل الدفاع عن الحريات الفردية في المغرب، بعد أن غاضهم تحرك المغاربة ضد الشواذ في مدينة القصر الكبير، فقسموا في ندائهم العلماني المجتمع المغربي إلى معسكرين: “معسكر الإسلاميين (المتطرفين منهم والمعتدلين ومعهم الشعبويون المسارعون إلى الدفاع عن الأخلاق)، ومعسكر حداثي (الديمقراطيون، الليبراليون، وبصفة عامة كل الذين يدافعون عن القيم الإنسانية قبل كل شيء)” مجلة نيشان عدد 135، وما بين القوسين هو توضيح من طرف أصحاب النداء وليس من طرفنا.
فيا ترى ما هو هذا الـ “كل شيء”؟
أليس هو الدين والثوابت الإسلامية ومقومات الهوية؟ وهذا واضح من خلال معيارَي التقسيم.
حقيقة، إن تطرف العلمانيين هو من أهم الأسباب المولدة للفكر المتطرف في بلادنا، فهل يعي المسؤولون على الأمن في البلاد خطورته؟ أم أنهم يُخدعون هم أيضا بشعارات الحداثة والتسامح والتعايش بمعانيها العلمانية؟
إن هؤلاء العلمانيين يطمعون في مغرب لا بيعة فيه ولا صلاة ولا أخلاق، فهم ينشرون دوما في صحفهم مقالات مدججة بالشبهات حول الإسلام، لمحاربة قيمه الأخلاقية التي يرون في بقائها عائقا كبيرا يحول دون انتشار القيم العلمانية المنحلة هذا على المستوى الاجتماعي والأخلاقي والعقدي، أما على المستوى السياسي فهم يطالبون دوما بتقليص اختصاصات الملك لكونها بشكلها الحالي تعيق الهيمنة العلمانية الكاملة على دواليب الحكم، والتي يتخوفون أن تكون يوما ما ذريعة لمعسكر الإسلاميين -حسب تقسيمهم- إلى إقامة حكم مبني على نظام الخلافة الإسلامية التي أسقطتها الطليعة الأولى من العلمانيين بتاريخ 03 مارس 1924م بعد الاتفاق الذي أبرموه مع دول الاحتلال في مؤتمر لوزان في نونبر 1923م.
إن تاريخ العلمانية في البلدان الإسلامية تاريخ أسود مليء بالخيانات والخذلان والخزي والعار، فكيف يمكن أن يكون خيار الشعوب المسلمة التي لا تبغي بديلا عن الإسلام الذي كان ولا يزال مصدر قوتها وتضامنها والتحامها؟
ألم يستغل القوميون العلمانيون بل حتى الاشتراكيون والملحدون في البلدان الإسلامية آيات الجهاد في حروبهم لإشعال نار الحماسة في جنودهم، ألم ترتبط جيوش المقاومة والتحرير في كل البلدان الإسلامية بقصص المجاهدين وآيات وأحاديث الجهاد!
فماذا تغير اليوم؟
إنها الهيمنة العلمانية التي تعمل على تركيع أية مقاومة للغرب المحتل، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
السبيل