الإسلام يوقف مدنية فرنسا

أصدرت الإقامة العامة بالمغرب بلاغا رسميا مؤرخا بتاريخ 22 شتنبر 1915م يقضي بجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات البربرية يقول “ريبو”: “إذا تركنا هؤلاء البربر يستعملون العربية فإنهم سيصيرون مسلمين, وما معنى الإسلام؟ معناه هو إيقاف تقدمنا والوقوف في وجه مدنيتنا”.(1)
نستخلص من هذا البلاغ الرسمي ومن كلمة “ريبو” بكل سهولة ووضوح أن المستخرب -لا المستعمر- الفرنسي يعتبر أن:
– اللغة العربية وسيلة لتمكن الإسلام من قلوب البربر.
– جعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات البربرية.
– الإسلام بالنسبة إليه يمثل إيقاف تقدم الإنسان الأوربي.
– الإسلام يقف في وجه مدنية أوربا.
إن الكتب والمراجع التي دونت للتاريخ المغربي الحديث على قلتها طافحة بمثل هذه التصريحات التي تكشف مدى المكر والخبث اللذين حكما كل مخططات الإنسان الأوربي-الغربي.
إن التعتيم على الجرائم التي اقترفتها فرنسا بحق المغاربة، يبقى من أهم الأسباب وراء قيامها بسرقة أرشيف المغرب وإصرارها على عدم تمكينه منه، هذا الرفض يوضح حقيقة واحدة تتلخص في إرادة فرنسا الحيلولة دون فهم الأجيال القادمة للكيفية التي يفكر بها العقل الأوربي عامة والفرنسي خاصة، تجاه دينها وهويتها وثرواتها، ومن ثم تضعف قوة الممانعة لديها مما يسهل استمرار غزوها عقديا وفكريا واستغلالها اقتصاديا وسياسيا..
فالحقائق التي يتضمنها أرشيف المغرب المسروق من شأنها أن تعطي تفسيرات يقينية لما تعيشه بلادنا اليوم من معضلات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.. إذ الحاضر مرتبط بالماضي غير منفك عنه بحال.
وهنا نعجب كل العجب عندما يقوم بعض العلمانيين بالمغرب بدراسة بنْيَة العقل العربي: كيف تكوَّن؟ وكيف فكر ويفكر؟ ليخرج علينا هذا “البعض” في النهاية بخلاصة مفادها أن على العربي أن يعتنق دين أوربا الجديد: العقلانية، ويتمسك بعقيدتها المبتكرة: “الديمقراطية”، ويبشر المسلمين بكونهما الدواء الشافي، والمخرج من كل المعضلات.
أليست مدنية أوربا التي تحدث عنها “ريبو” تتمثل في العقلانية والديمقراطية؟
ثم لماذا يعتبر الغرب الإسلام عامل إيقاف للتقدم الفرنسي؟
إن الجواب على السؤالين واحد ويتلخص في كون الإنسان الأوربي يدرك جيدا أن تقدمه رهين بتخلف الإنسان المسلم ومرتبط باستغلاله كمستهلك لمنتوجاته الصناعية والفلاحية، ويعي وعيا تاما أن لا غنى له عن ثروات البلاد الإسلامية من نفط ومواد خام وقوة بشرية، كما يدرك جيدا أن مدنيته (العقلانية والديمقراطية) لن يكون لها أي وجود حتى في بلاده إذا لم يتم تحقيق تقدم مبني على إفقار المسلمين واستغلالهم، وحتى يتم ذلك لابد من إزاحة الإسلام من أمامه بنشر “مدنيته”، وما دام الإسلام مرتبط بالعربية فمحاربتها لابد أن تندرج ضمن أولويات الحكومة الفرنسية.
إن الإنسان الغربي لا يرى في الإسلام مجرد دين يتعبد المسلم ربه من خلال تعاليمه، بل يعتبره منظما للسلوك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمسلم وضابطا لثقافته بشكل يجعلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته، لذا فالإنسان الغربي مافتئ يعتبر الإسلام عاملا يقف في وجه تقدمه ويوقف انتشار مدنيته الملحدة.
إن هذا الفهم لدين الإسلام من طرف العقل الأوربي هو الذي جعل المُخرِّبين (المعمرين) عندما انفجرت “أزمة الخمور المغربية” سنة 1935م يرحبون بقرار الحكومة الفرنسية بالسماح للمغاربة المسلمين بشرب (البيرة)، وطالبوا بتعميمه على سكان البوادي وبرفع المنع عن كل أنواع الخمور، وادعوا أن ذلك سيحد من مقاومة الفلاحين للاستعمار، معتبرين أن “الدين يسيطر على أدمغتهم (أي المغاربة) التي لا بد أن تلين حينما تسقيها جرعة الخمر”(2)، فبادرت فرنسا إلى إرسال لجنة تحقيق إلى المغرب وقدمت مساعدة مالية للمخربين (المعمرين) المتضررين.
إن مصالح منتجي الخمر من الغربيين أو من أصحاب الشهوات من المسلمين لا يرضيهم أن ينشأ المسلمون على مثل قول رسول الله صل الله عليه وسلم  : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر”(3)، لأن ذلك يدمر تجارتهم.
إن الإنسان الأوربي والغربي بصفة عامة ما استطاع أن يستعمر الدول الإسلامية إلا بعد تمكنه من إسقاط نظام الخلافة بواسطة بثه للفكر العلماني وإحلال مدنيته المشار إليها في كلام “ريبو” محل الكتاب والسنة، وإحداث قطيعة بين المسلم ودينه وتراثه وتاريخه، وهما أمران مرتبطان.
إن التيه الذي يعيشه المسلم في هذا الزمن مرده إلى تلك القطيعة التي فرضت عليه بالقوة والمكر والخديعة، لذا لا يمكن أن يتقدم المسلمون ويضعوا عن أعناقهم أغلال التبعية للإنسان الأوربي إلا إذا رجعوا إلى دينهم وفق فهم سلفهم الصالح له الذين رباهم رسول الله صل الله عليه وسلم  ففتحوا العالم وملؤوه عدلا بعد أن ملئ جورا وظلما وفسقا.
وخير الهدي هدي محمد صل الله عليه وسلم .
السبيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجماعات البربرية: ص:237-239، أوردها الشيخ محمد المكي الناصري في “فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى” ص:39.
le soir marocain. Casablanca 30-Mai-1935 (2)
(3) صحيح أنظر إرواء الغليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *