لقد كانت حياة الصحابة رضوان الله عليهم تمثل حقيقة الاستجابة الكاملة لله وللرسول، قولاً وعملاً، وفكراً وسلوكاً، فاستجابتهم كانت علمِيَّة عَمَلِيَّة وليست مجرد نظريات لا تطبيق لها في الواقع وهذا ما نفتقده في حياتنا المعاصرة، وهو الامتثال العِلمي العَملي. ولنا أن نسأل كيف حقق الصحابة الكرام هذه الاستجابة؟
إننا لو نظرنا لحياة الصحابة قبل مجيء الإسلام لوجدنا أنهم كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء، وفي تخبط فكري حتى أن أحدهم يصنع إلهه بيده ثم يعبده ويدعوه من دون الله، فلا عقل يرشدهم، ولا دين يهديهم، ولا عادات تقوّمهم، ولا أمم صالحة يقتدون بها أو يقتبسون من ضيائها، بل كان العالم برمته يعيش في دهاليز الظلام، حتى “إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ” إذ انقلبت الموازين، وتبدلت المفاهيم، فأصبح الشرك قربة والخمر مكرمة، وانتشرت المعاصي بجميع أنواعها، فهذا حالهم قبل مجيء الإسلام فهم لم يهتدوا بنور النبوة كما قال الله تعالى: “لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ” فلهم بهذا عذر.
وعندما أتاهم النذير تبدلت حياتهم كلياً، فتغيرت مفاهيمهم وتصوراتهم ونظرتهم للحياة والكون والإنسان مما أحدث لديهم تغيرا نوعيا في سلوكهم وتصرفاتهم فاستقامت سيرتهم، وحسنت أخلاقهم، وأصبحوا كما وصفهم الله تعالى:” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” فلا تكاد ترى في حياتهم المنكر، فرفع الله من شأنهم فأصبحوا قادة للعالم، في فترة وجيزة لا تقاس في عمر الأمم، وهنا نسأل مرة أخرى:
كيف حدث هذا؟
يمكن أن نلحظ أن السلف تميزوا بالتالي:
أولاً: تعظيم أمر الله تعالى: وهذا ما تميَّز به الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عنهم، فقد كانوا يعظمون الله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي أمره ونهيه، فتوقير الله تعالى وتعظيمه وحبه قد تخلل في أفئدتهم وتشرَّبَـته قلوبهم، وامتثلته جوارحهم فهم يرون حكم الله تعالى في كل مسألة.
فلتعظيمهم لله تعالى جعلوا حكم الله وشرعه هو الحاكم عليهم في كل صغيرة وكبيرة، وهذه هي حقيقة العبادة المتمثلة في تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع والذل له، وما نراه يحدث الآن من استهزاء بالدين وتلاعب بأحكام الله تعالى هو نتيجة غياب تعظيم الله في قلوب الناس، فأصبح تعظيم الحياة الدنيا وتجيلتها هو ديدن حياة الناس إلا ما رحم ربك، فَرَقَّ إيمان الناس وافتقدوا اتخاذ الموعظة من القرآن لأنه “تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى” والخشية نتيجة للتعظيم، وتعظيم الله تعالى نتيجة لمعرفته بأسمائه وصفاته، فالسلف قد عرفوا الله وعظموه فخشوه.
ثانياً: وحدة المصدر: كان السلف يعتبرون كتاب الله تعالى هو المصدر الوحيد للتلقي، فأفكارهم وتصوراتهم وقيمهم وسلوكهم كلها منبثقة من وحي الله تعالى، فالقرآن الكريم كان هو النبع الذي يستقون منه معارفهم وأفكارهم وتوجهاتهم، ولهذا نرى كيف غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وفي يده كتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “أمتهوكون(1) فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني(2) » وذلك لكي لا يكون هناك أكثر من مصدر للتلقي وأن يكون القرآن المبارك هو المرتكز والمصدر الذي ينطلق منه المؤمن في بناء تصوراته.
وحالنا اليوم، أننا قد جعلنا هناك مصادر متنوعة غير القرآن الكريم نتلقى منها تصوراتنا وقيمنا، فالتلقي لدينا من الغرب لم يقتصر في القضايا العلمية المادية، بل انسحب على مبادئنا وقيمنا وتصوراتنا لهذا كثر النزاع بيننا في قضايا لم يكن يتنازع فيها السلف، كمسألة تحكيم شرع الله تعالى وكتطبيق الاقتصاد الإسلامي وغيرها من المسائل التي يظهر فيها التلقي من “الآخر” – غير المسلم- المخالف لشرع الله تعالى.
ثالثاً: تطبيق ما تعلموه: وهذه من أشد ما يتميز به خير القرون، أنهم يقبلون على العلم بقصد العمل، فيتعلمون من أجل أن يمارسون ما تعلموه عملياً، فالعلم بلا عمل عارية وغير منتفع به، فإذا لم يعمل المرء بالنور الذي أُنزل فلن يكون لهذا النور أثر، فروح العلم هو العمل، والعلم وسيلة لا يصح فضله حتى يصدّق بمقتضاه، فإن كثيراً من المستشرقين والعلمانيين يعلمون دين الإسلام، ويعرفون أصوله وفروعه، ولم يكن ذلك نافعاً لهم لبقائهم على الكفر.
فالصحابة الكرام تعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً، فإذا جاء أمر الله امتثلوه دون تلكؤ أو تباطؤ أو تردد، فمن ذلك عندما نزل قول الله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(3)” جاء في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا” وهذا شيء عجيب في تحقيق الامتثال والاتباع، فترك الخمر لمن أدمن عليها بمجرد هذا القول يدل على قوة الإيمان وصدق الامتثال لأمر الله ورسوله.
رابعاً: سلامتهم من كثير من البدع والمفاهيم المغلوطة: لم يعاني جيل خير القرون من كثير من المفاهيم المغلوطة، فلم تكن هناك أزمات فكرية أو عقدية، فسلموا من أزمة الثنائيات، من ثنائية الأنا والآخر، ونظرية تصادم العقل والنقل، والأصالة والمعاصرة وغيرها من الثنائيات التي أدت إلى تشطير الإنسان وتدمير بعضه، فلم يعيشوا تناقضات تحول بينهم وبين تحقيق الاستجابة الصادقة لله وللرسول. فعندما طغت المفاهيم المستوردة وأخذ الناس بها، ارتكست الأمة، وعاشت نوعاً من التصادم الحضاري أرْدَاهُم في ذيل الأمم، وتخلفت استجابتهم لله وللرسول، واستجابوا لقيم وتصورات لا تتفق مع الإسلام وقيمه، فأصبحت الأمة تعيش فاقدة الهوية، مسلوبة الإرادة تعيش على فتات الآخرين،تقتات من ديونهم وتستأمر بأوامرهم.
خامساً: عاشوا مرحلة الدعوة الأولى: فأي دعوة تمر بثلاث مراحل، المرحلة الأولى وهي مرحلة الإيمان بالهدف، الذي يملاْ على الإنسان نفسه، ويشكّل له هاجساً دائماً، ويدفعه للعطاء غير المتناهي، والتضحية في سبيل ذلك، فمن سمات هذه المرحلة بروز إنسان الواجب، الذي لا يرى إلا ما عليه، ويقبل على فعله بوازع داخلي وبكل إيمان واحتساب.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة العقل، وضمور الإيمان، وفتور الحماس نسبياً، مرحلة التوازن بين العمل والأجر، وبين الحق والواجب، وبين الإنتاج والاستهلاك، وهنا تصل الحضارة إلى قمتها وتبدأ مرحلة السقوط. ثم تأتي مرحلة غياب الإيمان والعقل، مرحلة حب الدنيا وكراهية الموت، وبروز الشهوة، والغريزة، وانكسار الموازين الاجتماعي، واستباحة كل شيء وبكل الأساليب، وعندها تسقط الأمة، ويتم الاستبدال(4).
سادساً: لم تمنعهم القيود الدنيوية من تحقيق الاستجابة لله ولرسوله: فمما يتميز به خير القرون أنهم لم يمنعهم الأهل والمال من السير في ركاب الدعوة وقوافل التصدي للطغيان ومحاربته، بل هذه صفات من لم يستجب أصلاً لدين الله، فهي من صفات المنافقين كما قال الله تعالى:” سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا(5)” وهذا لسوء ظنهم بالله تعالى، فلا تجد في حياة الصحابة النجوم شغل عن تكاليف العقيدة، بل يسارعون ويتنافسون ويبادرون لأمر الله ورسوله ولا يبحثون عن الأعذار للتخلف عن ركاب الدعوة. وتأمل قول الله تعالى في وصف هؤلاء الفقراء من الصحابة الذين لا يجدون ما يحملهم كيف كان ردة فعلهم: “وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ”(6).
فلأجل هذا كله حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرض اختلاف الأمر من بعده ووصف لنا العلاج بقوله الشريف: “.. فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”(7)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متهوكون : متحيرون
(2) رواه أحمد والبزار والبيهقي وغيرهم وهو حديث حسن .
(3) المائدة (90)
(4) اانظر مقدمة كتاب “المستقبل للإسلام” للدكتور عمر عبيد ص 21، 22
(5) سورة الفتح (11)
(6) المائدة(83)
(7) صحيح الجامع