هناك فئات هامشية ظلت لسنوات تظن أنها من الأهمية بمكان داخل منظومة المجتمع -الذي عبر عما يختلج في صدره ويجول بخلده- ما زال يرتفع زعيقها من هنا وهناك، تنادي بالحريات الفردية التي لا تخضع لا لعقد اجتماعي، أو نظام أخلاقي، أو منهج رباني، وذلك ما يعني عودة زمن (السيبة) بنكهة الحقوق المكفولة دوليا؛ وكأن كلمة دوليا سيف مسلط على الرقاب وقانون مقدس.
أعرف أن كثرة الضجيج الذي يمارسه هؤلاء المهمشون هو في الحقيقة للتشويش على صفاء المسيرة نحو الهدف المنشود، وحتى لا ينكشف المستور وتضيع (المكتسبات…) التي حققوها بترديدهم لهذه اللازمة في المنتديات والمحافل، وقد يبدو أن هذه آخر فرصة عندهم أو الفوضى كما يريدون.
إنه ضجيج أفراد يمارسون التمويه حتى يظن السامع أن الأمر له أنصار وكثرة دعاة، ولكن انتهى زمن الخداع وانطلاء الحيلة، وصار للناس أعينا جاحظة تتفحص المشاهد لتختار منها الأسلم والأصلح. واختاروا أن يخوضوا تجربة لا زالت في بدايتها، لذلك يحفها كثير من الغبش سينجلي مع مرور الوقت، حين يتمكن أهل الحق من إظهار الحق بأبلغ عبارة وأوضح بيان.
إنهم ينادون بالحريات الفردية وأن تحفظ هذه الحريات بقوة القانون الدولي والوطني، ولو على حساب إرادة الشعوب وما يميزها من هوية ودين. وهذه هي الديمقراطية عند القوم، أقلية تقرر لشأن الأغلبية, وممارسة الإكراه بدعوى محاربة الإكراه، وهذا شأن آخر.
إن من تأمل حال الواقع ورأى ما تسرب إليه على حين غفلة من ريح هذه الدعوى النتنة؛ يرى أننا نعيش فوضى بدأت تدب كدبيب النمل في الظلام، وأصبح المهوسون بهذه الدعوة أو المخدعون بها يعيشون بلا نظام؛ ولا احترام للمشاعر أو تقدير لحرمات ومقدسات.
ومن يستطيع أن يكلم هؤلاء؛ وهم قد صدقوا فقاعة الحريات الفردية، التي كثر الناعقون بها كثرة بلا قيمة داخل المجتمع؟! ومن يستنكر وللقضية من يرعاها ويحميها من جهات تتمع بقدر من النفود والدعم؟!
مع الحريات الفردية سلام على الأخلاق، ووداعا للقانون، ولا بارك الله في حياة هذا شأنها، لأن بعض المظاهر تقشعر لها أبدان الغيورين وتتفصد لها جباهم عرقا، وعند رؤيتها نستحظر حديث الحريات الفردية فنتساءل، هل هؤلاء الناعقون يعون ما يقولون؟ ويرون نتيجة أفكارهم على تصرفات الأفراد؟ أيجهلون فيُعَرفون، أم يعلمون وربما ذلك ما يرجون وهو كذلك.
وهنا تـأتي الحكاية على متن القطار، حين يُخرج أحد ركابه عدته لإعداد لفافة حشيش ويهيئها على عين الركاب غير مبال بحملقة الناظرين، وشخوص أبصار المصدومين، ويصنعها على مهل وبافتخار، لأنه في زمن الحريات الفردية، ومن سيكلمه وعنده كثيبة ممن يدافعون عن فعله ويباركونه، ثم يدخنها بانتشاء دون اكتراث بمن يعاني مرض الربو أو الحساسية، أو وجود أطفال صغار أو رضع وإن كان تدخينها خارج مقاعد الركاب، ثم يعود لمكانه وربما في نفسه نشوة النصر؛ نصر الحريات الفردية على الأخلاق والأعراف والتقاليد والقيم والموروث الاجتماعي والقانون أيضا، وفوق رأسه ملصق يحذر من التدخين، إنها الحرية الفردية والتشدق بالتقدمية والتحضر.
المشهد نفسه يتكرر على قارعة الطريق، وأمام أبواب المنازل، وبجوار مخافر الشرطة، وأقبح من ذلك أمام أبواب المساجد، وكم رأيت من مشاهد مقززة كهذا، فأنت ذاهب لتصلي وأمام المسجد من يعد لفافة حشيش، أو يعانق عديمة الشرف، أو على موعد غرام، أو يعاقر خمرة، وربما هذه مظاهر تعايش عند دعاة الحرية والحداثة؟ ربما؟َ!!
ومن يملك الإنكار على الحق في الاختيار وممارسة الحرية ولو أمام بيتك حيث تنتهك حرمتك، ولا يسعك إلا الصمت لأنك في زمن الحرية (الإباحية) الفردية.
هذه حصائد دعوتهم وهي لا زالت قيد المطالبة باعتراف القانون، فكيف بها لو فعلا تماهى معها القانون وأقرها. فاللهم سلم، سلم.
فلتخسأ الحرية إذن إن كان هذا حالها ومآلها، ولينته دعاتها قبل أن يكونوا وقودا يؤججون نارا تحرق الأخضر واليابس، وليقرأوا عن واقع قدوتهم وأسوتهم الغرب الإباحي المفعم بالحريات الفردية؛ كم يعاني رغم وفرة الإمكانيات.
لعلهم يعرفون هذا وهو بلا شك، ولكنها مسؤولية تحملوها عن أعداء الأمة، عازمون على الوفاء بها. وإنها لجناية على الوطن وجريمة مع سبق إصرار وترصد.
هذه بواكير دعوتكم؛ فلتتق الله يا عصيد يا منظر الحريات، ولتعودي إلى رشك يا أحرار ممارسات الحريات، وكل ومن على شاكلتكم سار ولفكركم اختار. فإنه لن يستمر إلا ركب الأخيار، وإن غدا لناظره لقريب.
وكم في الكون من عبرة؛ ولكن لا يعقلها إلا العالمون .